بقلم/ فاطمة ناعوت
حدثتنى بالهاتف سيدةٌ من بنات الطبقة المِخملية فى مصر. تمتلك عدة شاليهات فى سواحل مصر الشمالية والشرقية، وتقطن فى منزل بعشرات الملايين من الجنيهات، وتحفظُ ألماساتها فى صناديق البنوك. مكالمةٌ طويلة بدأتْها بالشكوى من كلِّ شيء. القوانين المجحفة التى ظلمتها فى الميراث من زوجها الراحل الثريّ، الغلاء الذى يُعقّد الحياة، وغيرها من شكاوى المُعوزين.
استغرقت المكالمةُ نصفَ ساعة حديثًا من طرف واحد، تقريبًا. لأننى كنتُ أُنصِتُ وأفكّرُ فى امرأة أخرى، تعيشُ فى زاوية أخرى من مصر، على مرمى حجر أو حجرين من تلك السيدة اللاعنة حظّها.
لست بصدد انتقاد أحد. فالشعورُ بالرضا مسألةٌ شديدة التعقيد.
تعتمد فى المقام الأول على ثقافة الإنسان ووعيه؛ وليس أبدًا على مستوى ثرائه أو فقره. هممتُ أن أطرحُ لها أفكارى، لكننى آثرتُ أن يشاركنى القراءُ التأملَ فى حال السيدتين.السيدةُ الأخرى اسمها «مبسوطة».
هكذا اسمها، وما أوفقَ الاسم على المُسمّى! تعيش فى نجع ناءٍ من نجوع سمالوط. كان لديها خمسةُ أطفال مصابون بضمور كامل فى المخ. عند بلوغهم الثانية عشرة من أعمارهم، لا يقوون على الحركة فيرقدون.
لتبدأ مبسوطة رحلة «الشيل والحطّ» لأجساد أولادها حتى يتحمموا ويقضوا حوائجهم ويتقلّبوا على الفراش هربًا من قروح الفراش.
يصل منهم الولد أو البنت إلى عمر السابعة عشر، ثم يرحل فى هدوء من هذه الأرض. زوجها «عم سعيد» طريحُ الفراش مصابٌ بالفشل الكلوى. وتقوم زوجته الست مبسوطة على خدمته ورعايته كما تفعل مع صغارها.
ابنها الأصغر ميلاد، مصابٌ بنفس مرض أشقائه، لكنه يستطيع التحرك بصعوبة وحده إلى الحمّام.
فتقول عنه أمُّه بفخر: “أشكرك يا رب. صحيح لحمه متمزع من الوجعات، لكن بيقدر يروح المحلّ (الحمام)، أعتبره مش عيان”.
سيدةٌ مليحةٌ أنيقةُ الملامح.
نحيلةٌ سوداءُ العينين والشَّعر كأنها ملكة فرعونية منحوتة على جدارية فرعونية فى معبد الكرنك.
ابتسامةُ الرضا لا تفارقُ عينيها اللتين تُشعّان ببريق مدهش. مات زوجها بالفشل الكلوى قبل عامين، وترك لها ميراثًا هائلا من صغار مُقعدين لا يدركون ما يجرى حولهم، ولا تقوى أجسادهم الشابّةُ على الحركة.
مات منهم اثنان، فى عمر ال ١٧ عامًا، وثلاثة ينتظرون موعدهم الحتميَّ مع الموت؛ ليتركوا تلك السيدة وحيدة فى هذا العالم الصعب.
لو كنتُ رسّمةً لالتقطّتُ ابتسامةَ الرضا التى لا تفارق وجهها المشرق وهى تقول لمن يحدّثها: «والله ربنا محبش حد من البشر قد ما حبنى. وعمرى ما طلبت منه حاجة وقالى لأ.
هو عاوز ولادى كده.
وأنا راضية بمشيئته.
هو له حكمة فى حالى وحال ولادى.
وعمرى ما اشتكيت لحد».
هذه السيدة ليست فقيرة، إنما يصبو حالُها أن يصلَ إلى مستوى الفقر. لأن حالها دون مستوى الفقر بكثير وكثير. دخلها الشهرى لا يصل للمائة جنيه. ولا تمدُّ يدها؛ بل تدفع من قروشها النحيلة لبيت الله لمساعدة مَن هم أشدُّ منها عوزًا.
فهناك فى برّ مصر الطيبة حالاتٌ من الفقر والعوز لا يمكن للعقل أن يستوعب وجودها. ولكن «تحسبهم أغنياءَ من التعفّف».
يرفضون مدّ أياديهم للسؤال. ليس فقط لحفظ ماء الوجه، بل كذلك لأنهم يدركون بفطرتهم الطيبة أن هناك من هو أفقر منهم وأعوَز.
لهذا يشكرون الله كل نهار على نِعم كثيرة لا يراها غيرُهم. يشكرون الله على البصر والسمع والإدراك.
يشكرون اَلله على أنهم قادرون على الذهاب إلى الحمّام. يشكرون الله على نعمة التنفس.
الست مبسوطة موجودة بيننا على يوتيوب لمن يودُّ أن يتعلم «نعمة» الرضا وقبول النوازل والقدرة على شكر الله فى كل حال ودون شرط.
شاهدوا فيديوهات الست مبسوطة لتتعلّموا عبقرية الابتسامة ولتتأملوا درجةً عُليا من درجات الثراء، فقرًا وإيمانًا.
أُهدى هذا المقال لصديقتى المليونيرة التى تشتكى من ضيق ذات اليد رغم العقارات والأراضى والشاليهات التى تمتلكها فى مصر وخارجها.
ورغم الألماسات التى تزين أصابعها ومعصمها ونحرها.
وأُهديه لنفسى أيضًا لأشكرَ الله أكثر على نعمة حياتى الكبرى: ابنى «عمر» المتوحّد الجميل