الأحد , ديسمبر 22 2024
الدكتور ثروت باسيلى

وفي اللّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ ..

بعد حضور صلاة الجنّازة على أستاذي مفيد فوزي وخلال عودتي لمنزلي رحت أتصفح الـNet لمتابعة أصداء رحيله، فوجدت الـ Facebook يذكرني بمنشوري عن انتقال أبي العزيز د. ثروت باسيلي، وتداعت في ذاكرتي حكايات لا حصر لها معه، سأذكر واحدة منها لإيضاح جانب إنساني عميق الحكمة بالغ الرقّة في شخصية الرجل العظيم الذي اشتهر بالجدّية والصرامة والانضباط في قوله ومسلكه وإدارته وكل تفاصيل حياته.

كما ذكرت في المنشور الأصلي فقد شرفت بمعرفة ثروت بك خلال خدمتي مع قداسة البابا شنودة، وكان من القلائل الذين يستطيعون – بطريقة ما – زيارته في الدير، وحينها كنت مجرد ضابط صغير (مايعرفش ساسو من راسو) ومع ذلك لفت انتباهي حفاوة قداسة البابا بثروت بك وجدّية الرجل الذي كان مهمومًا لدرجة أن الدموع كانت تنساب من عينيه رغم محاولته إخفائها ، ومضت الأيام وانتهت خدمتي مع قداسة البابا شنودة، وتنقلت في عدة مناصب أمنية، ومنها رئيس مباحث قسم مدينة السلام، وذات صباح فوجئت باتصال من مدير أمن القاهرة، وكان حينذاك المرحوم اللواء عبد الحميد محمود، ويعرفني شخصيًا حيث تربطني بابنيه الضابطين صداقة وزمالة منذ كنا طلابًا بكلية الشرطة، وإذا به يقول لي : لأني أعرفك اتصلت بك مباشرة وتجاوزت التراتبية القيادية، ولأن الأمر خطير اسمعني جيدا ولا مجال لأي مبالغات أو سوء تقدير للأمور، هناك رجل أعمال وشخصية سياسية مرموقة لها صلة مباشرة بالرئاسة تعرض لإطلاق الرصاص على سيارته

لكنه نجا والحمد لله، هذا الرجل اسمه ثروت باسيلي وسيأتي لك بعد مكالمتي وربما تجده الآن على باب القسم، وهو يؤسس شركة ومصنع للأدوية في دائرة السلام، ويعد مشروعا إستراتيجيا هاما في صناعة الدواء، هل تستطيع التعامل مع هذه الواقعة وكشف ملابسات الواقعة ومرتكبيها بقواتك، أم أرسل لك تعزيزات من المديرية وأقسام أخرى وكما قلت لك لا مجال للمبالغات، الوزير (الداخلية) على تواصل معي لأن الرئاسة مهتمة للغاية بالأمر

فلا تضعنا في حرج لو لم تكن مستعدا لهذه المهمة التي تضع قدراتك ومستقبلك المهني على المحك، ولن أرحمك لأني أعرفك أو لأنك صديق أولادي، فقلت له دون أدنى تردد : أنا لها يا سيدي، ولا أغامر ولا أبالغ وأرجوك أن تمنحني فرصة لإثبات ذاتي كضابط مباحث محترف فقال أمامك 48 ساعة، مش 24 حتى لا أضغط عليك، وإذا تعثرت في أي لحظة أنت تعرف رقم هاتفي الخاص، ولن أوصيك بحسن استقبال د. ثروت بما يليق بمكانته، لأني أعرفك مهذبا لم تمر سوى دقائق حتى أبلغنتي حراسة القسم بوصول د. ثروت، ورغم مرور سنوات تذكرته فورًا

وتذكرني هو أيضًا، وعانقته كابن يحتضن أباه، وحين حاولت التهدئة من روعه وجدته متماسكًا مبتسمًا وليس خائفًا كما قد يحدث لغيره حين يتعرض لإطلاق الرصاص عليه، سمعته جيدا، وبدأت خطة البحث بالتنسيق مع المعاونين والقوات، وبالطبع تفاصيلها ليست للنشر

لكن خلاصتها أن بعض الأعراب (البدو) هم الذين أطلقوا الرصاص لتخويف د. ثروت بك، ليعينهم خفراء أو يحصلون على إتاوات منه، وهذا سلوك معتاد من البدو الذين كانوا حينذاك يسيطرون على المنطقة بالسلاح ويتاجرون بالمخدرات ويرتكبون كل الجرائم التي قد تخطر على بالك، ولم تكن مدينة السلام عامرة كما هي الآن، بل كانت شبه خالية إلا من البدو وبعض القرى مثل (كفر أبو صير) و(كفر الباشا) وغيرها

وبفضل الله في ذات الليلة ألقيت وقواتي القبض على مرتكبي تلك الجريمة، وتعد قانونيًا شروع في قتل، وكانوا خمسة إخوة مشهورين بسطوتهم، ويخشاهم حتى أبناء القبائل البدوية الأخرى، لبأسهم وتماسكهم وطاعتهم المطلقة لأكبرهم الذي كان داهية يخطط كأنه قائد عسكري مخضرم

واتصلت بمدير الأمن أبلغه النبأ وتفاصيله، فقال اتخذ إجراءاتك القانونية، وأعرف أنك (شاطر في القانون ومحاضرك ما تخرش الميه) لكن لا تستخدم العنف ولا تضربهم، أريد أن تكون كل إجراءاتك قانونية لا تشوبها شائبة، ولا تسرب الخبر للصحافة، خاصة أني أعرف أن لك أصدقاء كثيرين من الصحفيين

وبالطبع عُلم وينفذ من بين الإجراءات هو تعرف المجني عليه على المتهمين، دون مواجهة فهذه من سلطة النيابة فقط، وبالطبع لم يتعرف د. ثروت على أشخاصهم لأنه لم يراهم، بل فوجئ وسائقه بالرصاص فقط، وفوجئت به يطلب عدم تحرير محضر أو اتخاذ أي إجراء وأنه فقط يريد أن يجلس معهم على انفراد

وكان هذا الطلب مستحيلاً بالنسبة لي، لأنه يخالف تعليمات القيادة، ولم يهدر د. ثروت الوقت في مناقشات بل طلب استعمال التلفون الأرضي، ولم يكن وقتها سواه، ولم أعرف وقتها من يطلبه، بل سمعته فقط يقول (من فضلك خليني أتصرف في الموضوع بطريقتي، لأني مش جاي السلام أتفسح

أنا ناوي أشتغل وأستقر هنا، ولا أريد مشاكل مع البدو ودورات انتقام لن تنتهي، ومش كل مرة هنعرف نلمها) وغيره من هذا القبيل، فكرت بكلامه وقلت في نفسي :

هذا الرجل حاد الذكاء وعميق الحكمة، فلو حبس هؤلاء سنة أو عشرين فسيخرجون، وحتى أثناء حبسهم فإنهم أبناء قبيلة كبيرة وقوية ولها نفوذ بالمنطقة، ولن يتركوه وموظفيه وعماله في حال سبيلهم، بل فعلا سيتصرفون بروح الانتقام، ولم تمر سوى دقائق حتى اتصل بي مدير الأمن وقال : (ما تخافش حق تكريمك محفوظ، لكن اترك د. ثروت يتصرف كما يشاء، وخليك على علم بما سيدور بينهم من مناقشات واتفاقات) وبالفعل هذا ما حدث

وظف كبيرهم حارسًا على مصنع وشركة (آمون) بعقد عمل رسمي، وقتها قلت للبدوي : (أنا مسؤول عن التزامك بكل حرف وكلمة تلتزم بها، وأنت من أرباب السوابق ونزلاء كل سجون مصر، وتعرف جيدًا أن هناك معجزة من السماء أنقذتك وأخوتك من قضية عقوبتها تصل إلى السجن المؤبد)

فرد قائلاً : (يا باشا إحنا مش تلامذه وفاهمين كل حاجة، وإحنا مش ملايكة وبنغلط ونكره الحكومة، ومعندناش شغلانه غير المرار ده، وإزاي هنعيش ونصرف على بيوتنا والحكومة مش بتعبرنا ولا بتعلمنا ولا بتوظفنا ولا حتى سابيانا في حالنا

سيادتك صعيدي زي ما عرفت وفاهم نظامنا وأوعدك وعد رجالة هنشيل الباشا – يقصد د. ثروت) في عنينا، ومفيش مخلوق هيتعرض له أو لرجالته بإذن الله

وفي النهاية هنروح من بعض فين، أنا وسيادتك ملناش شغلانه غير بعض).

ملحوظة : مازال أبناء (البدو المتهمين) موظفين لدى د. ثروت، وبعده أبنائه الكرام، ويتولون حراسة مجمع السلام الذي يضم كنيسة كبيرة وعدة منشآت خدمية، ومقر قناة C_TV وخلال فوضى ما بعد (عورة 25 يناير) قاصد كلمة (عورة) مش (ثورة) لم يتعرض المجمع والعاملون لأي أذى أو مشكلة، والآن بعد سنوات طويلة ونضج عقلي ونفسي وروحي، أدركت مدى حكمة الأب الفقيد العظيم، وتعلمت درسًا بل عدة دروس مما جرى ..

سلاما ونياحا لروحك ثروت بك، وعلى نهجك يمضي أبناؤك الصالحون لمزيد من النجاح وخدمة المجتمع وشعب مصر دون أي تمييز، ولن أخوض فيما أعرفه من أعمال البر – وهي طبعا أقل مما لا أعرفه – حتى لا تضيع بركتها، بورك آل باسيلي وبوركتم جميعًا في هذه الأيام المباركة العطرة.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.