كمال زاخر 19 / 11 / 2022
لا اقصد من سطورى رسم صورة مثالية عن الأب الأسقف او اعادة نشر اقتباسات من الوثائق الكنسية، الكتابية والأبائية التراثية عن ماهية الرتبة الأسقفية ومسئولياتها وواجباتها وحقوقها، ولا تحمل سطورى اسقاطاً على شخوص بعينها، سواء القائمين بيننا او الذين رحلوا.
ما يعنينى فى المقام الأول هو ضبط بوصلة واقعنا على اتجاهات الكنيسة بحسب الإنجيل وما استقر فيها من قوانين رسولية وآبائية خاصة فى قرونها الأولى، قبل أن تضربها رياح الانقسام والتشتت وما نتج عنها من صراعات تحالفت مع الحروب الخارجية التى استهدفت وجودها وكادت ان تقتلعها من جذورها.
فى تقديرى أن التغيرات الحادة التى اجتاحت مصر فى غضون القرن العاشر كانت فارقة فى ذهنية الأقباط (المصريون الذين بقوا على مسيحيتهم) وفى تفاعل الكنيسة معها، ومنها ان صارت الكنيسة حصنا يحتمى فيه الأقباط فى تحرك عفوى وجودى يقيهم الذوبان فى تلك المتغيرات أو الاندثار، كما حدث فى كنيسة شمال افريقيا، ولعل هذا يفسر لنا الجمع فى ذاك الزمان بين اللسانين القبطى والعربى داخل الكنيسة وخارجها، ثم تراجع اللسان القبطى ليحتمى بأسوار الكنيسة مع تعريب الطقوس والصلوات برؤية البابا غبريال بن تريك (1131 ـ 1146م) حتى لا ينفصل ابناء الأجيال الجديدة – فى زمنه – عن الكنيسة، وربما يفسر لنا حرص الكنيسة على تسجيل تاريخها وخاصة سير الشهداء بسبب تمسكهم بايمانهم، وتلاوته بشكل يومى فى صلواتها الليتورچية، كطقس كنسى، فيما عرف بالسنكسار، لتدرك الأجيال المتتالية الثمن الذى دفعته اجيالهم السابقة لكى يصلهم الايمان نقياً تقوياُ كما تسلموه من الرب يسوع الذى أودعه اناس أمناء وهى الوصية التى تناقلتها الأجيال.
وكانت الكنيسة تعبر قمماً وقيعان بقدر حرصها على معايير أمانة من اختيروا لهذه المهمة. وقد اوجز الرسول بولس هذا فى توصيته لتلميذه تيموثاوس “وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا.” (٢ تى ٢ : ٢).
من هنا تشكلت نواة الإكليروس، وهى كلمة يونانية تعنى “نصيب”، وتشير إلى أن الشخص اختار أن يكون “الرب نصيبه وميراثه”، وصار هو نفسه مكرس ومخصص لخدمة الرب، وقد اشار الى الرتب الكنسية كل من القديس إغناطيوس الأنطاكى (من آباء القرن الأول الميلادى)، والعلامة القديس كلمندس الاسكندرى (من آباء القرن الثانى الميلادى)، وكلاهما ذكر أن الرتب الكنسية ثلاث هى الأسقف والقس والشماس، كما ورد ذكرهم أيضا فى مجمع نيقية المسكونى (325م.).
وأمامنا ما لا يحصى من المخطوطات والوثائق الكتابية والآبائية التى تتناول ترتيب ومهام ومسئوليات الرتب الكهنوتية الكنسية منذ القرن الأول، يمكن لمن يؤيد التوسع فى مطالعتها الرجوع إلى كتابات الباحث الراهب القس اثناسيوس المقارى، وفى مقدمتها، كتاب “الكهنوت المقدس والرتب الكنسية” وسلسلة كتب “معجم المصطلحات الكنسية”.
وقد اكتفيت هنا بما أورده القديس بولس الرسول فى هذا الشأن متعلقاً بالأسقف فى رسالته لتلميذه تيطس (1 : 7 ـ 16)، وأظنها الأساس الذى بنيت عليه اطروحات اباء الكنيسة عبر تاريخ الكنيسة حتى الآن.
(لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الأُسْقُفُ بِلاَ لَوْمٍ كَوَكِيلِ اللهِ، غَيْرَ مُعْجِبٍ بِنَفْسِهِ، وَلاَ غَضُوبٍ، وَلاَ مُدْمِنِ الْخَمْرِ، وَلاَ ضَرَّابٍ، وَلاَ طَامِعٍ فِي الرِّبْحِ الْقَبِيحِ، بَلْ مُضِيفًا لِلْغُرَبَاءِ، مُحِبًّا لِلْخَيْرِ، مُتَعَقِّلاً، بَارًّا، وَرِعًا، ضَابِطًا لِنَفْسِهِ، مُلاَزِمًا لِلْكَلِمَةِ الصَّادِقَةِ الَّتِي بِحَسَبِ التَّعْلِيمِ، لِكَيْ يَكُونَ قَادِرًا أَنْ يَعِظَ بِالتَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ وَيُوَبِّخَ الْمُنَاقِضِينَ. فَإِنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرُونَ مُتَمَرِّدِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْبَاطِلِ، وَيَخْدَعُونَ الْعُقُولَ، وَلاَسِيَّمَا الَّذِينَ مِنَ الْخِتَانِ، الَّذِينَ يَجِبُ سَدُّ أَفْوَاهِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَقْلِبُونَ بُيُوتًا بِجُمْلَتِهَا، مُعَلِّمِينَ مَا لاَ يَجِبُ، مِنْ أَجْلِ الرِّبْحِ الْقَبِيحِ. قَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ نَبِيٌّ لَهُمْ خَاصٌّ:«الْكِرِيتِيُّونَ دَائِمًا كَذَّابُونَ. وُحُوشٌ رَدِيَّةٌ. بُطُونٌ بَطَّالَةٌ». هذِهِ الشَّهَادَةُ صَادِقَةٌ. فَلِهذَا السَّبَبِ وَبِّخْهُمْ بِصَرَامَةٍ لِكَيْ يَكُونُوا أَصِحَّاءَ فِي الإِيمَانِ، لاَ يُصْغُونَ إِلَى خُرَافَاتٍ يَهُودِيَّةٍ، وَوَصَايَا أُنَاسٍ مُرْتَدِّينَ عَنِ الْحَقِّ. كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَمَّا لِلنَّجِسِينَ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ شَيْءٌ طَاهِرًا، بَلْ قَدْ تَنَجَّسَ ذِهْنُهُمْ أَيْضًا وَضَمِيرُهُمْ. يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللهَ، وَلكِنَّهُمْ بِالأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ، إِذْ هُمْ رَجِسُونَ غَيْرُ طَائِعِينَ، وَمِنْ جِهَةِ كُلِّ عَمَل صَالِحٍ مَرْفُوضُونَ.)
فإذا انتقلنا إلى واقعنا ماذا نجد فيه ولماذا؟، ودعونى أشير إلى أن الكنيسة القبطية، ومن ثم الأقباط، لم تعش عبر تاريخها المديد منعزلة عن المجتمع العام، ولم تتقوقع لتشكل “جيتو” أو “حارة نصارى”، لكنها فى سياق مقاومتها للضغوط والاستهدافات المختلفة راحت تدافع عن خصوصيتها الثقافية، خاصة بعد الإنقلاب السبعينى على التكوين المجتمعى المصرى الفسيفسائى المتراكم والذى شهد إعادة بعث ودعم التيار الأصولى الإسلامى، فأكدت على انتسابها المصرى، القبطى، ولم تكن طقوسها وصلواتها بعيدة عن تأكيد ارتباطها بالأرض والزرع والنيل، وانحيازاتها للفقير واليتيم والغريب والضيف، وهى قيم مصرية أصيلة، ورتبت أعيادها، وأصوامها، مع المواسم المناخية والزراعية، وتسرب إليها بعض من العادات الشعبية لعل ابرزها طقوس احتفالات “الموالد” والتى لا تختلف كثيراً عن نظيرتها الإسلامية، والتى برع فى تجسيدها المبدعون صلاح جاهين وصلاح السقا وسيد مكاوى وناجى شاكر، فى أوبريت الليلة الكبيرة على مسرح العرائس.
لم تكن سبعينيات القرن العشرين فقط محلاً للإنقلاب على طبيعة المجتمع المصرى بل شهدت أيضاً تحولات حثيثة فى التكوين الهيراركى للهرم الإكليروسى، كانت تنبئ بأن البابا الجديد يحمل رؤية متكاملة مشفوعة بخطة عمل لإعادة هيكلة المشهد الكنسى بجملته، لحساب الإكليروس.
كانت السياسة وأدواتها حاضرة، وإن لم تخنى الذاكرة كان مجمع الكنيسة، لحظة مجئ البابا الجديد، يضم ثمانية عشر مطراناً واسقفاً حصراً، كانوا فى غالبيتهم من الكهول والشيوخ، وعند رحيله بشيبة صالحة كان العدد قد تجاوز المائة، قيل فى تبرير ذلك أن تقسيم الايبارشيات يوفر خدمة أفضل، وان دفع شباب الرهبان إلى مواقع الأسقفية يجدد دماء الخدمة، لكن الواقع كان له رأى أخر، ربما اكثر اتساقاً مع وصايا الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس فى مواصفات معاونيه “وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْرِفُ أَنْ يُدَبِّرَ بَيْتَهُ، فَكَيْفَ يَعْتَنِي بِكَنِيسَةِ اللهِ؟ غَيْرَ حَدِيثِ الإِيمَانِ لِئَلاَّ يَتَصَلَّفَ فَيَسْقُطَ فِي دَيْنُونَةِ إِبْلِيسَ. وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ شَهَادَةٌ حَسَنَةٌ مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ فِي تَعْيِيرٍ وَفَخِّ إِبْلِيسَ.”
فإن استبدلنا بيته هنا بديره؛ كيف يمكن لمن لم يعش فى ديره بالقدر الذى يسمح له باختبار الحياة المجمعية ومن ثم التلمذه على شيوخه كيف يمكنه أن يعتنى بكنيسة الله؟
ليس فى الرعاية فقط بل أيضاً فى التعليم فى كنيسة تقليدية آبائية تدقق فيما تعلمه لأجيالها الجديدة، ولعل ما نراه من معارك تغشى الفضاء الالكترونى وتدخل كل بيت وتربك ثوابت الإيمان سواء عبر بعض الأساقفة أو عبر وكلائهم، يؤكد أزمة الكنيسة التى لا يريد أحد أن يطرحها بشكل صريح.
لن اتحدث عن أموال الكنيسة التى يتم فى أحوال كثيرة تبديدها فى أمور أقرب إلى السفه، أو فى مواسم رحلات الأساقفة إلى الشمال بغير داع أو مبرر، أو فى مظاهر اقتحمتنا لعل ايسرها ملابسهم المنبتة الصلة بطبيعة الكهنوت المسيحى، والمتحصنة بتأويلات من العهد القديم بغير حق، فلا علاقة بين كهنوت العهدين، وإلا نكون فى حالة ارتداد فجة وتهود قاومته كنيسة العهد الجديد.
وننسى أن ما يبددونه قوامه فلسى الأرملة وعطايا البسطاء، وينسى من يبدده بدم بارد نحذيرات الكتاب من فم القديس بطرس فى رسالته الأولى “ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ الَّتِي بَيْنَكُمْ نُظَّارًا، لاَ عَنِ اضْطِرَارٍ بَلْ بِالاخْتِيَارِ، وَلاَ لِرِبْحٍ قَبِيحٍ بَلْ بِنَشَاطٍ، وَلاَ كَمَنْ يَسُودُ عَلَى الأَنْصِبَةِ، بَلْ صَائِرِينَ أَمْثِلَةً لِلرَّعِيَّةِ. وَمَتَى ظَهَرَ رَئِيسُ الرُّعَاةِ تَنَالُونَ إِكْلِيلَ الْمَجْدِ الَّذِي لاَ يَبْلَى.”.
ماذا إذا استمرت الرسائل الموجهة بين الأساقفة دون حسم من مجمع الكنيسة “المقدس”؟!، وهل من تفسير للموقف من البابا تواضروس والذى تشير ظواهر كثيرة إلى أنه موقف مدعوم من داخل هذا المجمع (المقدس)!!.
فى فمى ماء.