بقلم د. محمد أبو بكر حميد
تعلقت بسورة (إبراهيم) منذ أيام دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية، كان في سيارتي شريط للشيخ عبدالباسط عبدالصمد – رحمه الله – فيه سورتا (إبراهيم)، و(الحج)، وكان يطيب لي أن أسمع سور (إبراهيم)
بصوته كل ليلة أثناء قيادتي للسيارة في طريقي للمركز الإسلامي لصلاة الفجر، آيات معينة في هذه السورة كانت ولا تزال تثير عواطفي الروحية، وتسيل دموعي طوال الطريق مثل قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة إبراهيم (36).
ولفت نظري أن إبراهيم عليه السلام لم يقل لربه: ومن عصاني أدخله نار جهنم، بل
قال {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.. إنها محبة ورحمة في هذا الدين الذي يتهمونه
بالقسوة والغلظة والإرهاب.. هذه رسالة الإسلام. إبراهيم يتمنى الغفران حتى للخارجين عنه والمعادين له
وللعصاة من أبنائه، وربط ابراهيم الأمن بالرحمة وهو ربط ذو دلالة وأهم ما يميز هذا الدين، كنا نقول هذا الكلام للأمريكان عندما يأتي الحديث عن الإسلام، فتخشع قلوبهم وتلين لهذا الدين، وكان هذا قبل حوالي عشرين عاماً، قبل أحداث سبتمبر، وقبل ظهور موجة الإرهاب التي يبرأ منها الإسلام.
شغلتني شخصية سيدنا إبراهيم عليه السلام وتتبعت سيرته والآيات التي ذكر فيها في القرآن الكريم، وما دخلت الحرم المكي بعد ذلك، ووقعت عيني على الكعبة المشرفة ومقام ابراهيم حتى تصورت قصة بناء الكعبة وجهاد إبراهيم وصبره وعظمة إيمانه بربه، ولا يفوتني وأنا أتطلع ببصري وأسرح بخيالي أن أتلو {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} سورة إبراهيم (37).
ومنذ أن أسكن إبراهيم عليه السلام ذريته في ذلك الوادي الذي ليس به زرع أخضر عمرته الحياة، وتدفق فيه شريان ماء ينبع من السماء ويشرب منه أهل الدنيا جميعا فلا يجف.. ماء زمزم، وأقيمت الصلاة فلم تتوقف منذ ذلك اليوم، وهوت أفئدة الناس تأتي لحج هذا المكان من كل فج عميق
وتأتي بحثا عن الرزق من كل بقاع الأرض، وما زالت دعوة إبراهيم ماثلة والصلاة قائمة، والأفئدة لا تزال تحن لذلك الوادي وتهوي إليه، فإن شريان زمزم سيظل متدفقاً، والأرض متسعة للكثير، والرزق يكفي الجميع..
إنها دعوة ابراهيم التي استجاب لها ربه {اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} سورة إبراهيم (34).
أحب الله نبيه إبراهيم حبا عظيما وميزه عن غيره من الأنبياء واصطفاه لنفسه خليلا {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} سورة النساء (125)، وجعله أول المسلمين، وإليه تعود جذور دعوة آخر الأنبياء محمد صلوات الله وسلامه عليه،
فدين ابراهيم هو دين الحنيفية السمحاء.. الاسلام، فهذا هو رب العالمين يوحي إلى نبيه من فوق سبع سموات {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} سورة النساء (125).
ويؤكد الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} سورة النحل (123)، وقد وصفه ربه فأحسن وصفه {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} سورة هود (75)، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} سورة الصافات (111)، {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} سورة النجم (40).
ورد ذكر سيدنا ابراهيم عليه السلام في خمسين موضعا في القرآن الكريم ووردت سيرته وقصصه متفرقة
في خمسة وعشرين آية، فهو من أكثر الأنبياء الذين تمتلئ قصص حياتهم بالعبر والحكم والدروس، وقد أورد الله سبحانه وتعالى قصص ابراهيم في أماكن متفرقة وفق ما تقتضيه ظروف نزول الآيات والسور.
وحياة ابراهيم عليه السلام هي قصة الإسلام، بل وقصة كل الأديان وكل الأنبياء، فيرتبط بإبراهيم بناء الكعبة والسعي بين الصفا والمروة، وتفجر ماء زمزم وظهور مكة المكرمة في واد غير ذي زرع
وله مواقف عدة مع ربه ومع الملائكة ومع قومه ومع أهل بيته زوجتيه سارة وهاجر
وولديه اسماعيل واسحاق، وقصة ذبح ابنه اسماعيل التي اختبره بها ربه وما أكثر الاختبارات
التي مرَّ بها إبراهيم وما أصعبها وأشقها، لكنه تجاوزها جميعا بإيمانه العظيم وبثقته بنصر ربه وبمحبته وإيثاره له.
وقد وقفت قبل أيام بعد أداء عمرة رمضان أمام الكعبة المشرفة وإلى جوار مقام ابراهيم
واستحضرت شريط هذا التاريخ العظيم.. تاريخ إبراهيم المزدحم بالإيمان
وتذكرت أن إبراهيم لم يكفّ عن الدعاء، وقد سجل الله له دعاءه في أكثر من موضع في القرآن الكريم
ووجدت نفسي في ذلك الموقف المهيب والناس من حولي تتزاحم كموج البحر حول الكعبة.. وجدت نفسي انطق وانطلق بكل جوارحي:{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} سورة إبراهيم (41).
واقشعر بدني وأحسست أن قلبي يهتز بين ضلوعي يريد أن ينطلق والناس من حولي تموج تريد رحمة الله وغفرانه في زحام شديد لم أشعر معه إلا بالسعة، واستحضرت رحمة الله التي وسعت كل شيء، فهتفت بخشوع بما لم أذكره من دعاء إبراهيم:{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء}
ودونما إرادة مني شعرت أن هذه الآية تزلزل كياني، وتفجر ينابيع الشعور في داخلي، وتكشف لي المستور من تقصيري مع ربي وتظهر لي عيوبي وظلمي لنفسي، ولم أشعر بوجودي وسط هذا الموج المتلاطم من البشر وكأنهم في يوم الحشر، بل شعرت
وكأنني وحدي أمام ربي علاَّم الغيوب، ففاضت دموعي مدراراً أحسست بحرقتها في قلبي
وأجهشت في بكاء مُرٍّ حميم أرهق ضلوعي وأحسست بعده إنني اغتسلت وتطهرت مما علق بي من أدران الدنيا وزينة شهواتها، وأنني نظيف.
وتأملت.. إنها لحظة ينصهر فيها المؤمن إلى درجة الصفر، وتتفجر في داخله كل ينابيع الايمان فتملؤه.. وتبقى العبرة فيما يتبقى من أثر هذه اللحظة في حياته بعد عودته للانغماس من جديد في دنياه ومدى قدرته في المحافظة على هذا الشعور بالنظافة!.
لكن سبحانه وسعت رحمته كل شيء. وسلام على إبراهيم الذي قال لربه في دعائه {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة إبراهيم (36).