الأحد , ديسمبر 22 2024
فريتس ويتفيلد

رحيل رجل مدَّ إليَ يدَ المساعدة!

اليوم قضيت فترة الظهيرة في حضور جنازة بكنيسة كبيرة وجديدة بأوسلو؛ استمرتْ فيها الترانيم والقراءات والموسيقى الحزينة وكلمات أبناء وأحفاد الراحل أكثر من ساعة.

الفقيد هو فريتس ويتفيلد وقد رحل عن عُمر ناهز 83 عاما.سبب حضوري من الجانب الآخر من المدينة أنني مدين له، رحمه الله، بالشكر القديم عندما كان يعمل في المدينة الطلابية (سوجن)، وكان قد تنقل بين عدة أماكن ممثلا للحزب اليميني، فهو محامٍ كبير، وسياسي نشط، وعضو البرلمان، ومدير المجلس البلدي .

في نهاية عام 1981 ذهبت إليه في مكتبه عندما كنت أعمل في مدينة الطلاب بــ( كرينجشوه) المجاورة لمقر عمله، ويعرفني جيدا.

سألته على استحياء عن سكن عاجل بعد أن نفد العقد في سكن آخر وأصبح العثور على شقة عملية شبه مستحيلة.في مفاجأة الرجل القوي والمحامي بمؤسسة إسكانية (أوبوس) قال لي: أنت شخصية لطيفة وأنا أحبك كثيرا، وتستحق المساعدة، اذهب غداً إلى مؤسسة الإسكان وستجد اسمك هناك حيث سيتم حل مشكلتك!

منذ ذلك اليوم؛ وأنا لم أنسَ موقفه النبيل رغم أننا لم نتقابل لأكثرمن أربعين عاما؛ فقد تركتُ مدينة الطلاب، وأقمت معرض الكتاب العربي في (كرينجشوه)، ثم افتتحت المكتبة العالمية عام 1983، وبعدها مباشرة أصدرت أول عدد من مجلة “طائر الشمال” التي استمرت ورقية لربع قرن.

كان فريتس ويتفيلد(من مواليد 1939) صورة جميلة للسياسي الناجح والذي لا يتوانى عن خدمة الآخرين، ونُبــْـله مني حالة نقية من المساعدة التي ظلت آثارها في صدري أربعة عقود.

عرفت من الصحافة بخبر وفاته قبل أن أبحث عنه لأعيد الشكر القديم إلى أن حملتْ صفحة الوفيات الخبرَ لي، فذهبتُ لوداعه فقيداً حيث لم أتمكن من لقائه حياً.

كانت الطقوس الكنسية حزينة، وألقتْ ابنتاه كلمات مؤثرة، وحٌمِلَ النعش الأبيض بعد أن أنهت القسيسة الشقراء والجميلة مراسم الحفل الجنائزي.

يبدو أنني المسلم الوحيد الذي كان وسط الحضور الكثيف، وكانت هناك ابنة أخيه، وهي وزيرة الخارجية.

وحمل أحفادُه وحفيداته النعش وكان في نفسي تأثير عميق، فهو التبادل الطبيعي بين الحاضر والراحل، أنت تنزلق تحت الأرض ونحن سننتظر فوقها حتى يأتي أجلنا.

لم يعرف فريتس ويتفيلد أنني مازلت شاكرا له خدماته الراقية، فالقـَدَر لا يتعامل مع البشر وفقا لرغباتهم، ولا ينتظر حتى الانتهاء من اللقاء والمصافحة والعناق؛ فباطن الأرض ليس لديه الوقت لمجاملات الذين يعيشون على سطحها.

رحم الله فريتس ويتفيلد، ولن يبلغه أحدٌ، إنسٌ أو ملاك، أنني كنت هنا متأخراً عن الشكر الثاني.

قرأ الحاضرون بصوت مسموع مقتطفات حزينة من العهدين الجديد والقديم، وقرأت أنا بصوت غير مسموع من القرآن الكريم؛ فمن يدري فربما تختلط الرحمة من الكتب المقدسة فتزيدها جمالا، وتصعد إلى السماء بسرعة أكبر.

عندما خرجت من الكنيسة كانت الدنيا كما هي، أطفال من الحضانة يلعبون، والمترو في موعده، والناس تتحاور وتضحك وتمارس حياتها الطبيعية؛ فلم يحن بعد موعد النزول للحفرة التي تنتظر كل واحد منّا.رحمك الله، فريتس ويتفيلد

وشكرا جزيلا على مساعدتك إياي منذ أربعين عاما.

محمد عبد المجيد طائر الشمال

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين

أوسلو في 9 نوفمبر 2022

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.