الأحد , ديسمبر 22 2024
د. محمد أبو بكر حميد

دعاني لبيته لحد باب بيته ..!

بقلم: د. محمد أبو بكر حميد

لا يعاتب اللي يتوب ولا في طبعه اللوم واحد مفيش غيره ملا الوجود نوره دعاني لبَّيته لحد باب بيته ولما تجلى لي بالدمع ناجيته تشجيني هذه الأبيات من قصيدة (دعاني لبَّيته) لبيرم التونسي التي اشتهرت بعد أن غنتها أم كلثوم سنة 1972م رحمهما الله وغفر لنا ولهما.

ويقال إن بيرم التونسي كتبها بعد عودته من أداء فريضة الحج، ولما قرأتها أم كلثوم تأثرت وبكت شوقاً لبيت الله الحرام، فذهبت إليه وأدت العمرة وعادت فغنتها بكل جوارحها، فبكت وأبكت في أول حفلة حتى عزم كثير من الحضور على الحج أو العمرة شوقاً لبيت الله الحرام. وأعرف صديقاً عزم على الحج في سنة من السنين وقد كبرت أمام عينه ذنوبه – عفا الله عنا وعنه- فلما هلت العشر من ذي الحجة كنت أسمعه يردد وهو يبكي بكاءً مُرَّاً مناجياً ربه:

كنت ابتعد عنّه وكان يناديني ويقول مصيرك يوم تخضع لي وتجيني طاوعني.. يا عبدي طاوعني.. أنا وحدي أنا اللي أعطيتك من غير ما تتكلم واللي هديته إليك لو تحسبه بيديك تشوف جمايلي عليك من كل شيء أعظم سلم لنا تسلم وبالفعل سلم الرجل واستسلم لرضا ربه فأرضاه، وهو اليوم من أسعد خلق الله وأكثرهم زهداً في دنياه طمعاً في آخرته.

وقد ظلت هذه القصيدة تثير في نفسي شجناً عميقاً وتحث أشواقي إلى بيت الله الحرام خاصة إذا ذكرتها أو سمعتها وبيني وبين الأراضي المقدسة بحار.. وفي التضرع والتذلل لله في شعر شوقي تعبير صادق رغبة النفس المؤمنة في التوبة، وإلقاء الذنوب والشوق لله والطمع في رحمته.

وما سمعت (نهج البردة) لشوقي التي غنتها أم كلثوم سنة 1946م لأول مرة، وأعادتها بعد ذلك مرات إلا وخنقتني العبرات مردداً معها وهي تقول: إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل في الله يجعلني في خير معتصم أُلقي رجائي إذا عزّ المجير على مفرج الكرب في الدارين والغمم إذا خفضتُ جناح الذّل أسأله عز الشفاعة لم أسال سوى أمم وإن تقدم ذو تقوى بصالحةٍ قدمت بين يديه عبرة الندم وقد وقفت طويلاً عند قصائد أحمد شوقي الإيمانية – غفر الله له وجعلها في ميزان حسناته – فقصيدته (إلى عرفات الله) التي كتبها قبيل توجهه إلى حج بيت الله الحرام يقول فيها:

إلى عرفات الله يا خير زائر عليك سلام الله في عرفات ويوم تولّي وجهة البيت ناضراً وسيم مجالي البشر والقسمات لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم لبيت طهور الساح والشرفات أرى الناس أفواجاً ومن كل بقعةٍ إليك انتهوا من غربةٍ وشتات ولما غنت أم كلثوم هذه القصيدة سنة 1965م أبكت الملايين وأهاجت أشواق المؤمنين، وهي تبتهل والدموع تترقرق في عينيها: ويا رب هل آذيت نفساً ولم أضِرْ ولم أبغِ في جهري وفي خطراتي وقدمت أعذاري وذلي وخشيتي وجئت بضعفي شافعاً وشكاتي وأنت ولي العفو فامح بناصعٍ من الصفح ما سوَّدتُ من صفحات ومن تضحك الدنيا إليه فيغترر يمت كقتيل الغيد بالبسمات وقد عزفت أم كلثوم على قيثارة شوقي – أحسن الله إليهما- في الوقوف عند سيرة نبينا سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) فغنت له سنة 1946م قصيدتيه الشهيرتين (ولد الهدى) التي تستفتح بابتهاج الكون بمولده (صلى الله عليه وسلم):

ولد الهدى فالكائنات ضياءُ وفمُ الزمان تبسم وسناءُ الروح والملأ الملائك حوله للدين والدنيا به بشراءُ أما في قصيدة (سلو قلبي) فيسيل قلب شوقي حباً وشوقاً وحكمةً وإيماناً، وما أكثر ما يشجي قوله: ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشبابا تسرب في الدموع فقلت ولى وصفق في القلوب فقلتُ تابا ولا ينبيك عن خُلق الليالي كمن فقد الأحبة والصحابا فمن يغتر بالدنيا فإنّي لبست بها فأبليت الثيابا فلم أر غير حكم الله حُكماً ولم أر دون باب الله بابا وغنت أم كلثوم سنة 1949م رباعيات الخيام الشهيرة لأحمد رامي – أدخلهم الله جميعاً في واسع رحمته – وإن كنت لا أتفق مع بعض أبياتها، إلا أن الكثير من الناس – وأنا منهم – يحبونها للتضرع والتذلل لوجه الله الكريم الذي شملته أبياتها الأخيرة، فما أحوجنا لرحمة الله، وما أقربنا من غفرانه بتوبةٍ صادقة يهتف فيها ملايين الحجيج (لبيك اللهم لبيك) في موسم حج كل عام:

إن لم أكن أخلصت في طاعتك فإنني أطمع في رحمتك وإنما يشفع لي أنني قد عشت لا أشرك في وحدتك يا عالم الأسرار علم اليقين يا كاشف الضُّرَّ عن البائسين يا قابل الأعذار عُدنا إلى ظلك فاقبل توبة التائبين ورحم الله محمد إقبال شاعر الإسلام العظيم الذي عبَّر في قصيدة (حديث الروح) التي غنتها أم كلثوم سنة 1967م لترفع بها معنويات الهمم المنهزمة، عن حال كل مسلم:

قيثارتي ملئت بأنات الجوى لا بد للمكبوت من فيضان صعدت إلى شفتي خواطر مهجتي ليبين عنها منطقي ولساني أنا ما تعديت القناعة والرضا لكنها هي قصة الأشجان يشكو لك اللهم قلب لم يعش إلا لحمد عُلاك في الأكوانِ وبعد.. فلا حب يعلو على حب الله، وكل شوق ينضب إلا الشوق إليه، وكل سعي يخيب إلا السعي في مرضاته، وكل رجاء من غيره يبطل إلا الرجاء منه، وكل باب يقفل إلا بابه، فمن يسعى إليه صادقاً لا يرده خائباً قط، فهو الذي صدق عهده، وأنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا هو له الحمد وله المُلك يُحيي ويُميت وهو على كل شيء قدير.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.