الجمعة , نوفمبر 22 2024
أيها الأسقف من أنت

أيها الأسقف … من أنت ؟ [2]

كمال زاخر

يتفق الكتاب المقدس والتقليد (الترجمة الحياتية الكنسية التراكمية لتعاليم الإنجيل) فى تعريف الأسقف، الصفات والمهام والإختيار، ولعل النقطة المفصلية فى اقترابنا من هذه الطغمة الخادمة ما ذكره كاتب الرسالة إلى العبرانيين فى سياق حديثه عن كهنوت المسيح “وَلاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ هذِهِ الْوَظِيفَةَ بِنَفْسِهِ، بَلِ الْمَدْعُوُّ مِنَ اللهِ”.والتكليف الأساسى بحسب القديس بطرس الرسول لهم “أَطْلُبُ إِلَى الشُّيُوخِ (الأساقفة) الَّذِينَ بَيْنَكُمْ، أَنَا الشَّيْخَ رَفِيقَهُمْ، وَالشَّاهِدَ لآلاَمِ الْمَسِيحِ، وَشَرِيكَ الْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ، ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ الَّتِي بَيْنَكُمْ نُظَّارًا، لاَ عَنِ اضْطِرَارٍ بَلْ بِالاخْتِيَارِ، وَلاَ لِرِبْحٍ قَبِيحٍ بَلْ بِنَشَاطٍ، وَلاَ كَمَنْ يَسُودُ عَلَى الأَنْصِبَةِ، بَلْ صَائِرِينَ أَمْثِلَةً لِلرَّعِيَّةِ. وَمَتَى ظَهَرَ رَئِيسُ الرُّعَاةِ تَنَالُونَ إِكْلِيلَ الْمَجْدِ الَّذِي لاَ يَبْلَى.”. (رسالة بطرس الأولى 5)

وفى تأكيد على محورية الرعاية فى مهام الأسقف يقول القديس بولس فى كلمته الوداعية لكنيسة أفسس “إحْتَرِزُوا اِذًاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ اللهِ الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِهِ”.(أعمال الرسل 20).

والسؤال هنا ما هى “الرعاية”؟، لعلنا نجد الإجابة فى كلمة القديس بولس الوداعية التى توقفنا عندها هنا، وهى بمثابة كشف حساب، وإبراء ذمة، قدمهما لرعيته؛ فى كلمات موجزة وواضحة:”أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَارًا، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ. وَالآنَ أَسْتَوْدِعُكُمْ يَا إِخْوَتِي للهِ وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، الْقَادِرَةِ أَنْ تَبْنِيَكُمْ وَتُعْطِيَكُمْ مِيرَاثًا مَعَ جَمِيعِ الْمُقَدَّسِينَ. فِضَّةَ أَوْ ذَهَبَ أَوْ لِبَاسَ أَحَدٍ لَمْ أَشْتَهِ. أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ الَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ الْيَدَانِ. فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ الضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ”.

ويضع أمام اساقفته ـ وأمامنا ـ تخوفاته التى استشعرها ربما بحدسه الروحى أو خبراته الرعوية أو بانفتاح ذهنه على طبيعة العلاقات والصراعات عندما تستقر أحوال الكنيسة وتتحول من دعوة إلى مؤسسة، “لأَنِّي أَعْلَمُ هذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ. وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ. لِذلِكَ اسْهَرُوا”.عمل الرعاية له هدف محدد اقترب منه القديس يوحنا التلميذ والرسول فى رسالته الأولى “كَتَبْتُ هذَا إِلَيْكُمْ، أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِاسْمِ ابْنِ اللهِ، لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلِكَيْ تُؤْمِنُوا بِاسْمِ ابْنِ اللهِ. وَهذِهِ هِيَ الثِّقَةُ الَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئًا حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا.”.

لا أود أن يستغرقنا التنظير لنجد انفسنا فى حالة تكرار لما استقر فى ادبيات الكنيسة وفى وجداننا، لنعود إلى واقعنا واشكالياته، خاصة فى عالمنا الثالث وبالأكثر فى كنيستنا القبطية الأرثوذكسية، وكنا قد أشرنا قبلاً إلى بدايات الأزمة التى اربكت الإكليروس مع اقتراب الإمبراطورية من الكنيسة بعد أن هدأت أجواء الاستهداف الوثنى للكنيسة، واستقرارها، وانتباه الإمبراطور الرومانى الداهية قسطنطين للتمايزات التى تميز المسيحيين والتى تجلت فى جسارة مواجهة الموت ليستثمرها فى معاركه وتثبيت اركان دولته، فراح يؤكد على رؤيته للصليب فى كبد السماء وسماعه لصوت يقول له بهذا تنتصر، فيتخذه شارة يضعها على بيارق جيشه وسُرج جياده، وتتحقق مآربه، واللافت أنه بقى على وثنيته بحسب مؤرخى عصره، وحين أعلن قبوله المسيحية إيماناً كانت معموديته على يد اسقف اريوسى، وقبيل وفاته بقليل. ومعه تشهد الكنيسة نقلة نوعية فى نظمها ووضعية الأساقفة التى صارت تحاكى الأمراء، وزاحمت أحلامهم القومية والسياسية مهامهم الرعوية والتعليمية، وكانت الكلفة عالية من سلام الكنيسة ووحدتها، وارتبك وصفها بالواحدة الجامعة الرسولية. وتتلقى الكنيسة طوفان من الاستهدافات تتتالى بين الرومان والفُرس والعرب.

امتد مكوثنا فى نفق العزلة، والإنكفاء على الذات، لقرون باستثناءات فردية لم يكتب لها التواصل والمراكمة، حتى مطلع القرن التاسع عشر، حين باغتتنا اقتحامات التواصل مع الضفاف المقابلة للبحر المتوسط، كما اشرنا قبلاً، ويأتى النصف الثانى من القرن العشرين ليشهد حراكاً متعدد الاتجاهات، داخل الجماعة القبطية،

كان العاصم لهذه الجماعة وسر بقائها توارث الليتورجيا والتراث الطقسى الكنسى عن ظهر قلب، عبر الإنسان القبطى البسيط، كفتيلة مدخنة تنتظر من ينفخ فيها فتعود لتتوهج وتضيئ يومها وغدها ومحيطها.سر بقاء الكنيسة يرجع إلى تراثها النسكى، وكانت الشرارة الأولى عام 1948 حين طرق شابان، تخرجا لتوهما من الجامعة المصرية،

أبواب الدير المقفر والمغلق على نفر من كهول الرهبان، كانت الدروب المؤدية للأديرة غير ممهدة والسكون يلف جوانبها، والعزلة كانت عنوانها.رحب بهما اسقف الدير، الذى انتهت عنده رحلتهما، أيما ترحيب، ورآهما كسحابة قدر كف كتلك التى رآها تلميذ إيليا، “وَأَمَّا إِيلِيَّا فَصَعِدَ إِلَى رَأْسِ الْكَرْمَلِ وَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ، وَجَعَلَ وَجْهَهُ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ. وَقَالَ لِغُلاَمِهِ: «اصْعَدْ تَطَلَّعْ نَحْوَ الْبَحْرِ». فَصَعِدَ وَتَطَلَّعَ وَقَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ». فَقَالَ: «ارْجعْ» سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَفِي الْمَرَّةِ السَّابِعَةِ قَالَ: «هُوَذَا غَيْمَةٌ صَغِيرَةٌ قَدْرُ كَفِّ إِنْسَانٍ صَاعِدَةٌ مِنَ الْبَحْرِ». فَقَالَ: «اصْعَدْ قُلْ لأَخْآبَ: اشْدُدْ وَانْزِلْ لِئَلاَّ يَمْنَعَكَ الْمَطَرُ»… كان هذا بعد زمن فيه “أُغْلِقَتِ السَّمَاءُ وَلَمْ يَكُنْ مَطَر”.

(راجع سفر ملوك الأول)تشهد الأديرة، فى غضون سنوات قليلة من تلك اللحظة، اقبالاً من الشباب طالبى الرهبنة، بعضهم تأسياً بالشابين المغامرين، وبعضهم لأسباب تنوعت بين ضغوط اللحظة، وصدماتها النفسية والاقتصادية والمجتمعية، وبعضهم تحت تأثير السير الرهبانية الطوباوية التى أعيد طرحها، وبعضهم ليحقق سعيه لحياة أفضل بحسب فهمهم للإنجيل واعتبارهم الرهبنة ترجمة لدعوة ترك الكل والإلتصاق بالواحد.

وبعضهم بحثاً عن تحقق فشل فى صنعه فى حياته فى العالم.ربما يعطينا تنوع الدوافع تفسيراً لما شهدته الكنيسة فيما بعد من صدامات وخلافات بين هؤلاء الرواد حين قدر لهم أن يتصدروا المشهد الكنسى كل فى دائرته وموقعه، لكن ما يهمنا هنا معالجات من انتهى بهم الأمر الى مقاعد السلطة الكنسية، لملف ادارة الكنيسة.

وتحديداً فى اعادة هيكلة ورسم منظومة الأساقفة.كانت البداية عند البابا (القديس) الأنبا كيرلس السادس، فى حدثين لهما صلة بأزمة الأساقفة، الحدث الأول عندما أسس توجه رسامة اساقفة عموم، يتولون مهام عامة محددة فى خدمة الكرازة بدون ايبارشية محددة وبدون رعية، والحدث الثانى عندما أغلق مدرسة الرهبان عام 1961، وأعاد رهبانها إلى اديرتهم، وبعدها بسنوات قليلة صارت المدرسة مقراً لإقامة اسقف حلوان الذى تمت رسامته بعد فترة وجيزة، لتموت فكرة إعداد الرهبان لتولى مهام الأسقفية، لاهوتياً وكنسياً وعلمياً عبر الدراسات اللاهوتية والكنسية، والإنسانية من علم نفس وعلم اجتماع وفلسفة على أيدى علماء متخصصون.

كانت الأديرة تشهد اقبالاً من خريجى الجامعات طالبى الرهبنة، الأمر الذى جذب الأنظار لهم، واتجهت الكنيسة لتفضيلهم فى رسامات الأساقفة، وكان من الممكن أن يكون هذا تطوراً إيجابياً يصب فى صالح التعليم والرعاية، لكنه لم يكن كذلك، فقد شهدت الأديرة استدعاءً لمن يراه صاحب القرار أكثر ولاء، ليترهب، بعد فترة اختبار وجيزة، ويبقى فى الرهبنة سنوات لا تتجاوز فى أفضل الحالات اصابع اليد الواحدة توطئة لرسامته اسقفاً، بغض النظر عن معارفه وخبراته اللاهوتية والكنسية، وبالضرورة لم يعش حياة التلمذة فى سنواته الديرية القليلة، وتظهر المفارقة مع ثورة المعلومات وتدفقها، بين اصابع الأجيال الجديدة من الشباب عبر آليات الثورة الرقمية التقنية، وثورة الأسئلة عندهم، والتى تقابل باخفاق هذا النوع من المدبرين فى مواجهتها، الذين يلجأون ـ عجزاً ـ إلى إعمال السلطة، ورفع سلاح الإبعاد والعقوبات حتى الى الحرم والقطع.توقفت كثيراً أمام ترتيب الأحداث عسى أن اجد مبرراً للمتاعب التى حاقت بموقع الأسقف، ادركت أن التجريف بدأ عند اللحظة التى أغلقت فيها ابواب مدرسة الرهبان بدلاً من معالجة ازماتها، وتطويرها لتصبح نواة لجامعة لاهوتية تعيد انتاج زخم مدرسة الاسكندرية اللاهوتية، ثم تدعم التجريف بادارة المشهد الديرى والأسقفى بذهنية سياسية،

كانت مشغولة بتكوين أثقال موالية فى مجمع الأساقفة. فإذا كنا نريد إعادة هيكلة المشهد الأسقفى نبدأ بالدير، لنعيده إلى نسق التلمذة وضبط العلاقات داخله، والتوقف على الأقل لمدة عشر سنوات عن منح قاطنيه أية رتبة كهنوتية (من القس للأسقف) حتى يسترد وعيه الرهبانى ولا يزاحمه أية تطلعات خارجه.سيدى الأسقف ادعوك لتقرأ معى ما جاء بكتب المراسيم الرسولية (القرن الرابع): “لأجل الأساقفة، هكذا سمعنا من ربنا يسوع المسيح، أنه يجب على الراعى المقررة رسامته أسقفاً على الكنائس فى كل ايبارشية أن يكون بغير لائمة ولا علة، طاهراً من كل انواع الشر الشائعة بين الناس،

ليس بأقل من خمسين سنة لأجل بيته، وقد هرب من الإنحرافات الشبابية وأقاويل الوثنيين.””ويجب عليه أن يكون وديعاً متواضعاً هادئاً رحيماً صانع سلام ذا سريرة جيدة طاهراً من كل ظلم وشر وكل اغتصاب متيقظاً متأنياً غير قلق وغير مخاصم، غير محب للفضة وليس غرساً جديداً لئلا يتعظم قلبه فيسقط فى فخاخ الشيطان”فيما توجه قوانين الرسل القبطية تحذيراً للأسقف “كل اسقف راض بقلة العلم، أو بجهل أو بحقد، ليس هو اسقفاً بل يحمل الاسم كاذباً، وهو ليس من قِبل الله بل من قِبَل الناس” (القانون 1 : 51).

وللطرح بقية.

شاهد أيضاً

العلاقة بين العلم والدين فرنسيس كولينز يقبل المسيح كمخلص

نسيم مجلى  هذا عالم فيزياء يترأس مشروع الجينوم البشرى، ويبدو أن إعلانه الإيمان بالمسيح قد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.