الجمعة , نوفمبر 22 2024
الدكتور عاطف معتمد

هل يرقص أستاذ الجامعة ؟

لعل هذا أعجب سؤال في القرن الحادي والعشرين؟ ولعله أعجب سؤال في هذه البلاد طيلة تاريخها، ذلك لأنه يجمع بين صفتين لا تجتمعان: الجامعة و الرقص.

دعنا أولا نقرأ ما يقوله المؤيدون لهذا الموقف كي نفهم وجهة نظرهم:

1. الرقص حرية شخصية لم يؤذ فيها الأستاذ أحدا من طلابه ولا زملائه، لأنه لم يرقص في لجنة انتخابية لتزوير إرادة الناخبين، ولا رقص لرئيس المؤسسة الجامعية كي يمنحه مكافأة مالية أو جائزة أو وظيفة إدارية.

2. الرقص عمل فردي لم يترتب عليه إفساد ومحسوبية ومحاباة ، ولطالما رقص الأستاذ دون أن يترتب على رقصه ضرر في الدرجات والمحاضرات فهذا أمره الشخصي وشأنه، يرقص كما يشاء على السطوح أو على البلاج.

3. الرقص الفردي البلدي – بالملابس أو المايوة – عمل تافه صغير، حرام نضعه في نفس الفئة بجوار الخطايا الكبرى التي يقوم بها بعض أساتذة آخرون يقبلون الرشاوي الجنسية أو المالية.

يقول الأستاذ نفسه إنه خلال فترة مشاكله مع الجامعة بسبب رقصه وأفكاره تلقى منحة أكاديمية للأساتذة المضطهدين في مصر وسافر إلى الولايات المتحدة أمضى فيها عاما أكاديميا مثمرا في بحوثه للغاية.

وسأبدأ هنا بهذا الخيط : هل نعتبر هذه نقطة البداية وكلمة السر ومفتاح التفسير؟ هل قام الأستاذ بتلقي الشهرة والتقدير في الولايات المتحدة من خلال نفس السلوك؟ هل كان يجلس في الولايات المتحدة خلال ذلك العام في غرفة مغلقة يقرأ ويترجم أم قام بالتدريس للطلاب عن ثقافة مصر؟

هل كان يرقص في الولايات المتحدة أم انكب على البحث والترجمة والتأليف ولم يشعر أحد به ولا رقصه؟

وإلى أن نفكر في إجابة أود أن أتذكر حالة ذات دلالة في ثنائية السلع التي نبيعها للداخل والسلع التي نبيعها للتصدير.

قبل أكثر من 15 سنة تعرض أستاذ جامعي مصري إلى هجمة دينية بسبب طعونه النقدية البلاغية في الكتب المقدسة، وكان أستاذا جامعيا يؤثر تأثيرا كبيرا في وعي وعقول الجيل بمحاضراته المنتظمة للطلاب الذين جاءوا للتو من التعليم الثانوي.

وحينما اشتدت الأزمة هاجر وطلب لجوءا إلى دولة أوروبية كي لا يتعرض لأذى بدني ونفسي.

وهناك أجرت معه قناة اخبارية عربية حوارا سألته فيه: “بما أن هذه فرصة مواتية للغاية في المجتمع الأوروبي المتفتح: هل تحاضر هنا في الطلاب عن نفس مشروعك الفكري في مصر بشأن التنوير ونقد الكتب المقدسة وتحليل نصوصها كما لو كانت نصا أدبيا ؟!

“وهنا جاء الرد الذي جعلني أعجب بهذا الأستاذ وبعقله النقدي الرائع حين قال للقناة الإخبارية العربية:”احنا هانضحك على بعض؟!

أقولهم أفكار تنويرية في نقد الكتاب المقدس واعتباره عملا أدبيا؟ كيف وهم الذين اخترعوا النقد والأفكار التنويرية واحنا أخدناها منهم..هو أنا هابيع لهم سلعتهم في بلادهم؟!”.

وحتى لا يتشعب الحديث مني في مسألة رقص أستاذ الجامعة، سألخص وجهة نظري في هذا الموضوع البائس في ثلاث أفكار:

ليس من المنطقي أن نبرر فعلا بائسا لا علاقة له بالجامعة بمبررات الفساد المهني والنفاق الوظيفي والتدليس على الطلاب وتأييد الاستبداد.

ولا يجب أن نأخذ الساقطين من أساتذة الجامعة في مستنقع النفاق والتدليس والتحرش الجنسي باعتبارهم القاعدة العامة.

سيبقى هؤلاء نسبة محدودة وسط غالبية ملتزمة في هذه المهنة التي تحتضر سريريا لأسباب أخرى لن ينقذها منها التمرد بالرقص البلدي.

مثل هذه السلوكيات تجلب الشهرة أكثر مما تجلب النفع، فبحكم تجربتي في زيارة عدد متنوع من الجامعات في عدة دول في الخارج ، لم أجد مثل هذا السلوك علامة على التجديد والتنوير والتعبير السياسي، صحيح أن بعض الأساتذة لهم بعض علاقات جنسية وسقطات إدارية وأخلاقية وتحيزات سياسية أو عنصرية

مثل طبيعية البشر في كل مكان – لكن القانون لا يصمت على هذه السلوكيات لأستاذ يمثل “الحرم” الجامعي ويعد قدوة لطلابه أو ناقلا وموصلا للأفكار والسلوكيات الحضارية.

ربما تبدو مبررات فصل الأستاذ الجامعي من عمله بسبب قيامه بالرقص العلني – بالملابس أو المايوه – سببا شكليا ، لكنه في نظري ليس من زاوية الدفاع عن الدين أو العرف الاجتماعي! فحقيقة الأمر – من وجهة نظري- أن المجتمع به سلوكيات بالغة التجاوز وتضرب بالأخلاق والأعراف عرض الحائط، وتستوجب تدخلا فوريا من الدولة.

فلو كنا نريد الخير للمجتمع فربما كان الأولى إيقاف فيديوهات وأغاني البلطجة بمثل ما نفكر في عقاب الأستاذ الجامعي الراقص، ومن وجهة نظري فإن الموقف الرسمي يتسق مع عقيدة أخرى أهم من عقيدة الدين وهي عقيدة “الظبط والربط والإحضار” وهي مشكلة أكبر بكثير من مشكلة الرقص وتتجاوز المشهد الساذج إلى بنية التحكم في المجتمع واستيعابه واحتواء عناصر تمرده أو شكواه ( تماما مثل امتحانات الثانوية العامة السهلة التي تفوت الفرصة على تجمهر وتمرد الأهالي وإثارة عدم الاستقرار…على حساب مستوى التعليم) .

وإذا أردت الحقيقة فإن مختلف صور العوار هذه التي نتحدث فيها هي أعراض عوار لمرض أكبر وأكثر خطورة وهو الحرية السياسية وحرية التعبير عن الرأي بالأشكال المنطقية الطبيعية السليمة المتسقة مع الحس الإنساني وحضارة البشر.

اعط للناس حرية الرأي السياسي والفكري بالطرق الشرعية، وطبق القانون على جميع المخالفين دون استثناء، حينها ستكون الفرصة أفضل للعقل والمنطق ولن يلجأ الناس إلى كل غريب وشاذ ولافت.

أعتذر انني كتبت عن مشهد أظنه أحد مشاهد تشتيت الوجدان، والسخرية من العقل، وأرجو من الله أن يجنبنا إثارة الجدل العاقر الذي لا يلد عملا صالحا ولا يورث بناء ولا عمرانا.

الدكتور عاطف معتمد

شاهد أيضاً

جورج البهجوري بنكهة وطن !!

بقلم عبدالواحد محمد روائي عربي فنان تشكيلي كبير عاصر كل نجوم الثقافة العربية محيطا وخليجا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.