بقلم د. محمد أبو بكر حميد
«الثوابت الإستراتيجية» بين الدول التي تربطها علاقات متشابكة عميقة الجذور لا تتغير بتغير أنظمة الحكم، ولا تتأثر كثيراً بالاتجاه المخالف للمصالح السياسية الآنية، بل تظل هذه «الثوابت» تلح على الطرفين، وتفرض نفسها على نظام الحكم القائم بصفتها «ضرورة وطنية»
و«حتمية سياسية». وينطبق هذا القول أكثر ما ينطبق على العلاقات السعودية اليمنية في كل عهودها ومراحلها وقياداتها السياسية المتعاقبة التي ظلت محكومة بوحدة العقيدة ووحدة الجذور الاجتماعية ومنطق التاريخ وواقع الجغرافيا وحق الجوار.
والدليل على ذلك أن من يتأمل بنود الاتفاقيات التي تم توقيعها بين الوطنين الشقيقين في عهد الملك عبدالعزيز وفي عهد الإمامين يحيى وأحمد حميد الدين لن يجد تغييراً أو إضافة تذكر لهذه الثوابت فيما تم توقيعه بعد ذلك في عهود القيادات السياسية المتعاقبة في الوطنين بعد ذلك، بل إننا نجد في «اتفاقية الطائف» الشهيرة من بنود التكامل الإستراتيجي ما نرى أن الوطنين يسعيان الآن حثيثاً إلى تحقيقه فيما يعقد بينهما من اتفاقيات، ولهذا أتمنى أن يكون عمل اللجان المشتركة بين الوطنين الشقيقين دراسة إستراتيجية لبنود الاتفاقيات التي أُبرمت مع اليمن في عهد الملك عبدالعزيز.
وقعت المملكة مع اليمن في عهد الملك عبدالعزيز خمس اتفاقيات منها اتفاقيتان منفردتان وثلاث اشتركت معهما فيها أطراف إقليمية هي مصر والعراق. وما يهمنا التوقف عنده هنا هو الحضور القوي للإستراتيجية الأمنية في الاتفاقيتين المنفردتين بين الجارين الكبيرين.
كان الملك عبدالعزيز أكثر عمقاً في وعيه السياسي، وبُعد نظره في تجاوز الخلاف المؤقت بالتركيز على الأهداف الإستراتيجية بينما انساق الإمام يحيى حميد الدين ومن بعده ابنه الإمام أحمد وراء الأطماع السياسية التي لا تخدم المصالح الإستراتيجية للجارين الكبيرين عندما ذهبا في فترة من فترات الصراع إلى تأييد الشريف حسين في الحجاز والأدارسة في عسير ضد الملك عبدالعزيز.
ومع ذلك سيجد المحلل السياسي لتاريخ المعارك الحربية التي شهدتها الجزيرة في مرحلة توحيد المملكة العربية السعودية أن الملك عبدالعزيز كان يتجنب الاشتباك العسكري مع الإمام يحيى وعدم فتح جبهة معه رغم أنه الأقوى عسكرياً، ويميل إلى التفاوض وعقد الاتفاقيات مؤكداً على أن كلاً من الوطنين يشكل عمقاً أمنياً للآخر بدليل أن كل الذين يحاولون الإضرار بالوطن السعودي يتخذون من عمق اليمن ملاذاً أو منطلقاً أو هما معاً مثلما فعل الإدريسي بعد أن نكث بعهده واتخذ من اليمن قاعدة للتمرد على الملك عبدالعزيز ومثلما يفعل الإرهابيون الذين يلوذون بعمق اليمن، والحوثويون الذين انطلقوا للاعتداء على الوطن السعودي عبر حدود الوطن اليمني.
كان الملك عبدالعزيز على وعي تام وعلى توقع بما حدث وما سيحدث من منطق القراءة الإستراتيجية لأهمية وخطورة هذا الجوار الحميم الذي لا تربطه فقط مصالحه الحيوية المشتركة بل يربطه به أيضاً صلات القربى والرحم الواحد.
لم يكن عجباً -إذن- أن تتضمن كل الاتفاقات السعودية اليمنية طموحات يتحقق بها التكامل السياسي والدبلوماسي والاجتماعي والاقتصادي بين الوطنين لاستيفاء المتطلبات الإستراتيجية للهاجس الأمني.
والهاجس الأمني في العلاقات السعودية اليمنية ليس هاجس القيادة السياسية بل هو مطلب إستراتيجي للشعبين، إذ إنهما لا يستطيعان المضي قدماً في حركة التنمية الوطنية اجتماعياً واقتصادياً دون تحقيق الأمن والسلام والوئام في ربوع الجزيرة العربية بين أكبر وطنين فيها.
كانت «معاهدة العرو» – نسبة إلى جبل العرو على الحدود بين البلدين -أول اتفاقية يتم التوقيع عليها بين الوطنين الجارين وذلك في 7-9-1350هـ الموافق 19-1-1932م وسُميت «معاهدة صداقة وحُسن جوار» سعى إليها الملك عبدالعزيز إنهاءً للخلاف على المناطق المتنازع عليها على الحدود، وحقناً للدماء بتجنب المواجهة العسكرية، وأهم بنود هذه الاتفاقية الاتفاق على:
– عدم إلحاق الضرر ببلاد كل منهما.
– تسليم المجرمين السياسيين وغير السياسيين.
– عدم قبول من يفر عن طاعة حكومته لأي سبب من الأسباب وإرجاعه إلى دولته حالاً.
وهذه البنود ثوابت إستراتيجية تخص الأمن الوطني للجارين، وتحمل بعداً إقليمياً بعد أن ثبت لهما أن أمن أحدهما لا يستتب إلا بأمن الآخر.
والدليل على أن الثوابت الإستراتيجية لا تتغير بتقادم السنين وتغير الأنظمة السياسية لأنها مصلحة وطنية، سنجد أن الاتفاقية الأمنية التي عقدت بين الوطنين في إبريل 2001م أي بعد حوالي 70 عاماً من معاهدة العرو لم تخرج عن هذه الثوابت بأي حال من الأحوال بل أكدت على أن هناك ما يمكن أن نسميه «الإستراتيجية الأمنية السعودية اليمنية» وهو ما نحتاج للوقوف عنده في تحليل بنود اتفاقية الطائف إن شاء. الله
ستظل اتفاقية الطائف السعودية اليمنية التي وقعت في عهد الملك عبدالعزيز في 6 صفر 1353هـ الموافق 19 مايو 1934م نموذجاً صادقاً ومخلصاً لاتفاقيات الإخوة وحسن الجوار والتكامل الوحدوي بين الدول.
ولا تزال الاتفاقيات السعودية اليمنية تستلهم هذه الاتفاقية الأم حتى تصل إلى الطموحات الكبرى التي أقرتها اتفاقية الطائف.
ولا عجب أن يعد المؤرخون الأجانب هذه الاتفاقية النداء الرسمي الأول للوحدة العربية في العصر الحديث على نحو ما فعل سلفاتور ابونتي في كتابه الشهير: (مملكة الإمام يحيى) (ترجمة طه فوزي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1947م)، ذلك لأن التوقيع على هذه الاتفاقية لم يتم بين الدولتين الجارتين فحسب، بل تم بحضور إقليمي دولي، إذ شهد على توقيع هذه الاتفاقية مندوبون من أربع دول عربية وهم: محمد علي علوبة عن مصر/ وشكيب ارسلان عن لبنان، وهاشم الاتاسي عن سوريا، وأمين الحسيني عن فلسطين، وقد نشرت هذه الاتفاقية في أمكنة بارزة من صحف الدول العربية، وأذيعت في آنٍ واحد من إذاعات مكة المكرمة وصنعاء والقاهرة ودمشق.
تضمنت الاتفاقية 23 مادة بتفاصيل دقيقة وواضحة لا تقبل اللبس والتأويل.
وقد وضعت هذه الاتفاقية حداً لكافة بنود الخلاف وأهمها الخلافات الحدودية.
ونصت المادة الأولى منها (.. على قيام حالة سلم دائم وصداقة وطيدة وأخوة إسلامية عربية دائمة لا يمكن الإخلال بها جميعها أو بعضها).
وقد خصصت أربع مواد من هذه الاتفاقية للجوانب الأمنية، وتشكل بياناتها التفصيلية ما يقرب من ربع الاتفاقية.
تنص المادة التاسعة على أن يتعهد كل من الفريقين بأن يمنع استخدام أراضي بلاده قاعدة لأي عمل عدواني ضد البلد الآخر، وذلك على النحو التالي:
* إن كان المعتدي على البلد الآخر من رعايا الدولة التي صدر من أراضيها الاعتداء تقوم بمعاقبته.
* إن كان المعتدي من رعايا الدولة المُعتدى عليها يُسلم إلى حكومته لمعاقبته، فإن هرب تتعهد الحكومة الأخرى بالقبض عليه وتسليمه لحكومته.
* إن كان المعتدي من رعاية دولة ثالثة فإنه يُقبض عليه ويُطرد ويُمنع من العودة.
وفي المادة العاشرة يتعهد كل من الفريقين بعدم قبول من يفر عن طاعة دولته إلى الدولة الأخرى، فإن استطاع اجتياز الحدود يُقبض عليه ويُسلم لحكومة بلاده، وتعالج المادة السابعة عشرة حالة حصول اعتداء خارجي على أحد البلدين تنص على أن يلزم الطرف الآخر الحياد على الأقل ويقدم العون المادي والتأييد المعنوي والسعي لدى الطرف المعتدي لإقرار السلام الإقليمي الذي يخص كل الأطراف.
أما المادة الثامنة عشرة فتتعرض لحالة حصول فتن أو اعتداءات داخلية في بلاد أحد الطرفين فيتعهد كل منهما بما يلي:
* اتخاذ التدابير الفعالة اللازمة لعدم تمكين المعتدين أو الثائرين من الاستفادة من أراضيه.
* منع التجاء اللاجئين إلى بلاده وتسليمهم أو طردهم إذا لجئوا إليها كما هو موضح في المادة التاسعة والعاشرة من هذه الاتفاقية.
* منع رعاياه من الاشتراك مع المعتدين أو الثائرين وعدم تشجيعهم أو تموينهم.
* منع الإمدادات والأرزاق والمؤن والذخائر عن المعتدين أو الثائرين.
والحقيقة التي يجب الوقوف عندها وتأملها أن هذه البنود التي تحافظ على الأمن بين الوطنين الجارين بشكل دقيق وشامل تبدو وكأنها كُتبت للظروف الأمنية الحالية التي يمر بها الوطنان وليس لظروف المرحلة التاريخية التي تم التوقيع عليها فيها.
إذ إن هذه البنود هو ما تم تنفيذه والتعاون عليه بين الوطنين الجارين للقضاء على العدوان الحوثي الغادر المدعوم بقوى إقليمية تريد النيل من أمن السعودية واليمن في آن واحد.
فإن دلت هذه الاتفاقية على شيء فهي تدل على بُعد نظر الملك عبدالعزيز للجانب الأمني بين الوطنين، وهو رؤية استراتيجية لا يمكن أن تكون من أفكار الإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن الذي أجمع المؤرخون على أنه كان قصير النظر في رؤيته السياسية، يشغله التكتيك للحصول على أهداف قريبة أكثر مما تشغله الرؤية الاستراتيجية البعيدة المدى.
ولهذا نجد أن الاتفاقية الحدودية الأخيرة التي وقعت بين الوطنين الشقيقين في 12 يونيو سنة 2000م في جدة وأعقبتها الاتفاقية الأمنية التي وقعت في أبريل 2001م لم تخرجا في مضمونهما وأهدافهما الاستراتيجية عن ما جاء في اتفاقية الطائف على كافة مستويات العلاقة الأخوية سياسياً وأمنياً واجتماعياً واقتصادياً.
ولقد أثبتت الأحداث الإرهابية التي شهدتها المملكة واليمن على السواء ابتداء من سنة 2003م حتمية التعاون الأمني الذي يصل إلى مرحلة التكامل التام بين الجارين الشقيقين، فقد وجدت القيادة الأمنية السعودية بعد العمليات الإرهابية التي شهدتها المملكة، أن الإرهابيين اتخذوا من الأراضي اليمنية ممراً أساسياً لتهريب أسلحتهم عبر حدود بين الوطنين يزيد طولها عن 2000 كيلومتر، ثم اتخذوا من جبال اليمن وأراضيه الواسعة عمقاً يلوذون به للهروب أو لاستكمال استعداداتهم.
وبناء على معطيات هذا الواقع كان انعقاد الدورة الخامسة عشرة لمجلس التنسيق السعودي اليمني في صنعاء في يوليو 2003م، حيث كان الهاجس الأمني المحور الأساسي في جدول الأعمال. وبالمثل أدركت القيادة اليمنية أهمية التعاون والتنسيق مع المملكة بشأن التحرك المزدوج للإرهابيين بين البلدين! والدور الإيجابي لهذا التعاون الذي من شأنه أن يساعد على الأمن والاستقرار والقضاء على خلايا الإرهاب التي تتخذ من اليمن منطلقاً لها أو التي تقوم بعمليات إرهابية فيه تلحق الضرر باقتصاد اليمن وسمعته الدولية.