د. محمد أبو بكر حميد
على الرغم من كثرة الكتب التي صدرت عن الملك عبدالعزيز إلا أن معظم هذه الكتب تعنى بالتاريخ وسرد أحداثه والتعليق عليها، أكثر مما تعنى بتحليل الوقائع ودراستها لاستخلاص ما يفيد الحاضر منها.
والمؤلفات التي تناولت هذا الجانب لا تزال قليلة.
والفلسفة السياسية التي صدر عنها الملك عبدالعزيز تجاه القوى الدولية والدول العربية الشقيقة وخصوصاً دول الجوار مثل اليمن تحتاج إلى دراسات مستقلة لسياسته تجاه كل دولة.
وعلاقة المملكة العربية السعودية في عهد الملك عبدالعزيز باليمن على الرغم مما صدر عنها من كتب ودراسات إلا أنها لا تزال بحاجة إلى مزيد من التأمل والدراسة والتحليل واستخلاص العِبر والنتائج أكثر مما تحتاج إلى سرد وقائع التاريخ المعروفة.
والمؤسف أن بعض هذه الدراسات نظرت إلى العلاقة السعودية اليمنية من منظور الواقع الآني لهذه العلاقة سواء كان في لحظة توتر أو توافق. وهذا منظور قصير النظر لأنه لم يضع في الاعتبار العمق الاستراتيجي في هذه العلاقة والأبعاد التاريخية والاجتماعية والجغرافية والسياسية جميعاً – دون فصل أحدها عن الآخر- التي تحتم الانسجام والتوافق في هذه العلاقة، وتجعلها دائماً قادرة على تجاوز لحظات التوتر ومواقف الخلاف.
وقد أدرك حكيم العرب في العصر الحديث الملك عبدالعزيز ما يمكن أن نسميه ب(الأبعاد الأمنية للعلاقة مع اليمن الجار الشقيق).
ومن أهم ما سمعت -تاريخياً- في هذا الصدد من معالي الشيخ عبدالله عمر بلخير سكرتير الملك عبدالعزيز ومترجمه الخاص ورئيس دائرة الشعبة السياسية في عهده، أن الملك عبدالعزيز قال مشيراً إلى الخلاف الذي وقع مع الإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن آنذاك (إن علاقتنا باليمن مثل العلاقة بين أخوين شقيقين يعيشان في بيت واحد، لا بد أن يراعي كل واحد منهما مصالح الآخر وأمنه وراحته لأن هذا ينعكس على البيت كله بمن فيه.
لهذا لا تطول أوقات الخلاف وسرعان ما يعود السلام والمحبة والوئام). وفي الجلسة نفسها قال لي الشيخ عبدالله بلخير: إنه أُثر عن الملك عبدالعزيز قوله لأولاده موصياً باليمن (خيركم من اليمن وشركم من اليمن) «من حديث شخصي معه بمنزله بجدة في 1-8-1992م».
وبصرف النظر عن أن راوية هذا الكلام كان من أقرب الرجال إلى الملك عبدالعزيز إذ كان أول من يراه في الصباح وآخر من يراه في المساء بحكم وظيفته التي تقتضي أن يبلغ الملك بآخر مستجدات أخبار العالم وأحداث التاريخ تؤكد كلام الرجال أو تنفيه، ولما كان أفذاذ الرجال أمثال الملك عبدالعزيز هم الذين يصنعون التاريخ، فإن الدارس لتعامل الملك عبدالعزيز مع اليمن -الجار الشقيق- في أوقات الخلاف كان يؤكد هذه الحقيقة، وأن أحداث هذه العلاقة كانت مصداقاً لما نسبه إليه معالي الشيخ عبدالله بلخير بهذا الخصوص، وفحوى فلسفة الملك عبدالعزيز (إنه إن أصاب اليمن خير فإن ذلك ينعكس على أمن ورخاء البيت كله الذي تشغل المملكة الجزء الأكبر منه، وإن أصاب اليمن شر فإن ذلك ممتد إلى المملكة إن لم تُعن اليمن على قطع دابره).
والأزمات التي مرت بها اليمن والمملكة منذ بداية حكم الملك عبدالعزيز إلى الآن أكدت هذه الحقيقة.
ابتداءً من أزمة جنوب المملكة بسبب الأدارسة ومروراً بما تمخض عنه وحول القوات المصرية إلى اليمن بعد ثورة 1962م وانتهاءً بمشكلة الحوثيين في صعدة وامتدادها إلى الحدود السعودية.
ولولا التعاون الأمني الوثيق بين الوطنين لما أمكن حصر بؤر الإرهاب والتقليل من ضررها، ولما أمكن القضاء على مناوشات المتسللين على الحدود السعودية، والوصول إلى اتفاق سلام معها داخل اليمن. والأهم من ذلك كله أنه لولا إدراك هؤلاء المتمردين -المدعومين من قوى إقليمية- أن الأحداث أثبتت لهم أن المساس بأحد الوطنين -السعودية أو اليمن- أصبح مساساً بأمن الآخر.
إن وحدة العقيدة والدم جنباً إلى جنب مع طبيعة الجغرافيا ووقائع التاريخ وأحداث الواقع المعاصر مجتمعة مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كلها تؤكد صدق حكمة الملك عبدالعزيز في رؤيته الاستراتيجية للعلاقة مع اليمن في قوله لأبنائه: «خيركم من اليمن وشركم من اليمن»، ذلك لأن الملك عبدالعزيز كان يرمي إلى أن البعد الأمني العمود والأساس الذي يبشر بالخير في هذه العلاقة، ويقطع دابر الشر عن هذه العلاقة.
وما المواقف التاريخية التي وقفتها المملكة مع اليمن طوال تاريخ هذه العلاقة إسهاماً في تعزيز البنية التحتية، ودعم مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإعطاء الأولوية في الفرص للخبرات البشرية اليمنية في خدمة الوطن السعودي، ومساعدة اليمن على امتلاك قوة دفاعية قادرة على حماية أراضيه.
ما كل هذا إلا ترجمة حقيقية وواقعية لرؤية الملك عبدالعزيز الاستراتيجية لخصوصية العلاقة مع اليمن التي تصب في خدمة البعد الأمني الذي لا يمكن أن يعيش أحد الوطنين الجارين في رخاء وسلام دون أن يعيش الجار الآخر في الأمن نفسه.
وما ينطبق على الأمن ينطبق على مجالات الحياة الأخرى كالرخاء الاقتصادي وازدهار التنمية الاجتماعية وسعة النهضة التعليمية، لهذا كانت المملكة -ولا تزال- في طليعة المبادرين وأكبر الداعمين لهذه الجوانب جميعاً سعياً لإكمال مجتمع الرخاء والازدهار في منطقة الجزيرة والخليج.