أبى من عائلة ثرية بسوهاج.. وأمي من الإسكندرية.. ولدت في سوهاج.. لكنى هجرتها للإسكندرية رضيعا على كتف جدتي.. وكان الانتقال هو عاقبة خلاف بين جدي لأبى وجدي لأمي.. «الاتنين..كانوا جبارين» جدي لأبى ثرى يملك الأراضي الواسعة.. ويستقبل في بيته الكبار..أما جدي لأمي.. فكان جبارا بطريقة أخرى.. كان تاجرا يعيش في منطقة شعبية بالإسكندرية.. محاطا بعزوة من أبنائه وأقاربه.. واتفق الاثنان بعد خلافهما أن أعيش مع عائلة أمي بالإسكندرية.. وألا أزور الصعيد إلا مع دخولي الجامعة.. «يعنى يعملوها الكبار.. ويقعوا فيها الصغار»
لم يكن لأبى تأثير كبير في حياتي.. كان يأتيني في الإسكندرية زائرا فقط.. وقد تزوج ست مرات.. وأنجب 12 طفلا.. أما أمي فعلاقتي بها غير نمطية.. فقد أنجبتني وهى طفلة عمرها ١٤ عاما.. ونتيجة خلافاتها مع أبى أخذتني جدتي للإسكندرية.
ثم وقع الطلاق بين أبى وأمي.. وعادت أمي بأخي الأصغر ليعيشا معنا في الإسكندرية.. وبعدها تعرض أبى لأزمات جعلته يزهد كل شئ.. ويميل للتصوف.. حتى مات وهو في بداية الخمسينات.
كنت طفلا هادئا أسرح كثيرا.. ولا ألعب مع الصغار.. لم أشعر بمعاناة لانفصال أبى وأمي.. فعائلة أمي الكبيرة كانت عوضا لي.. معاناتي الوحيدة كانت بسبب صخب الحي الشعبي الذي أعيش به.. لكنى استطعت أن أصنع لنفسي عالما خاصا بى ، من شدة حبي للكتابة.. كنت أعيد كتابة الواجبات المدرسية يوميا لحد نهاية الكراسة.. لدرجة أن أبلة أمينة مدرسة العربي.. أعفتني من الواجبات!»
كنت محظوظا باهتمام جدي.. حيث ألحقني بمدرسة خاصة.. وكان يشجعني على القراءة.. ونظرا لصغر سن أمي.. كانت جدتي وعمتي هما الصورة الأقرب للأم في ذهني.. وكان أخوالي هم الأقرب لدور الأب.. وكان أحدهم أديبا.. أسهم بدرجة كبيرة في تنشئتي الأولى وإمدادي بالكتب.. وحينما انتقل للعمل في القاهرة.. فقدت المرجعية.. وكان علىّ تكوين أفكاري منفردا.
في الصف الأول الإعدادي قرأت أعمال شكسبير.. ثم جذبتني أشعار محمود درويش.. وانبهرت بقدرة اللغة الشعرية على التعبير والإيحاء بصورة خيالية ذات أفق أوسع.
وفى المرحلة الثانوية اتجهت أغلب قراءاتي للفلسفة.. وكنت معجبا بالفيلسوف نيتشه وتعبيراته البليغة وصوره المركبة والجريئة في رواياته.
في السنة الجامعية الأولى.. جاء أبى لاصطحابي إلى قريتي بسوهاج لأول مرة تنفيذا لاتفاق أجدادي.. خرجنا من الإسكندرية أول أيام رمضان.. لنصل سوهاج أول أيام العيد!! فقد أراد والدي الذي كان يعيش حالة التصوف.. أن تتضمن الرحلة زيارات لأولياء الله الصالحين بمختلف المحافظات.. كنت رافضا لكل هذه المظاهر لتشبعي بأفكار نيتشه.
ولكني صادفت في الرحلة موقفا غريبا غير أفكاري.. فقد قابلت في الإسكندرية أحد شيوخ الصوفية.. وفوجئت به يقول لأبى: ابنك سيكون سفيرا.. فاعترضت ساخرا: أنا أدرس الفلسفة.. فكيف أكون سفيرا.. وتجاهلت الرجل وسرحت في أفكار الفلاسفة شوبنهاور ونيتشه.
فلما وصلنا الصعيد.. قابلت الشيخ الصوفي عبد الحليم ودنان.. وفوجئت به يسألني عن شيخ الإسكندرية.. فأجبته بأنه لا يفهم شيئا.. فرد ساخرا: أنت الذي لا تفهم.. فكلمة سفير مشتقة من السفر أي الكتاب.. وأنت ستظل مشغولا بالكتب طيلة حياتك.. ومن وقتها بدأت ألتفت للصوفية.
لم تكن الدراسة تشكل لي أي مشكلة.. نظرا لقدرتي على استرجاع أي شئ أقرأه.. بالإضافة لثقافتي ورؤيتي الخاصة.. وانعكس هذا علىَّ سلبا وإيجابا.. ففي امتحانات الجامعة كنت أكتب رؤيتي.. حتى وإن اختلفت مع رؤية أساتذتي..وكان بعض الأساتذة يتقبل ذلك.. وبعضهم يرفضه.. مما أدى لرسوبي في إحدى المواد بالسنة الأولى.. لكن أحد أساتذتي نصحني: «اكتب كلام المنهج.. لو عايز تنجح وتكمل دراساتك العليا.. وفعلا نفذت النصيحة.. واتخرجت وبدأت دراساتي العليا .
تعمقت علاقتي بالصوفية مع شاعر الصوفية ابن الفارض الذي وقعت أشعاره في قلبي موقعا خاصا.. وفى سن 22 عاما نشرت كتابي الأول «المقدمة في التصوف».. ثم اكتملت علاقتي بالصوفية بالتأمل والدراسة.. فأعددت الماجستير عن الصوفي عبد الكريم الجيلى.. ثم الدكتوراه وعمري 29 عاما عن الإمام عبد القادر الجيلانى.
ثم تعرضت لمؤامرة خسيسة في جامعة الإسكندرية.. فتم إلغاء قرار تعييني.. فقررت التقدم للحصول على الأستاذية في الفلسفة من جامعة أخرى.. هي جامعة قناة السويس.. وحصلت عليها وعمري 39 عاما.. لأكون أصغر من حصل عليها.. وبجدارة أيضا.. حيث تقدمت للترقية بأحد عشر كتابا.. بينما المطلوب أربعة.. وعدت للجامعة بشهادة رسمية.. لكنى شعرت أنني استعدت حقي ولم أعد أريد الاستمرار.. وفى يوم تعييني بجامعة قناة السويس.. سحبت أوراقي وقررت التفرغ للكتابة..عملت مستشارا لمكتبة الإسكندرية منذ عام 1994
وفى عام ٢٠٠٠ صرت مديرا لمركز ومتحف المخطوطات.. حتى استقلت 2012 بعدما فقدت ثقتي في المؤسسات ونشرت استقالتي في ثلاثة مقالات بالصحف ومن يومها اكتفيت بالكتابة.. وأصبحت نادرا ما أخرج من منزلي.. وأقضى كل وقتي في الكتابة.. أكتب في كل الأوقات.. وأستمع للموسيقى من الكلاسيكيات الغربية أو العود الشرقي.. كما أتابع كبار مخرجي السينما العالمية .
تزوجت أول مرة وعمري 25 عاما من زميلتي بالدراسات العليا.. استمر زواجنا 15 عاما.. وأثمر ٣ أبناء.. علاء وآية ومي.. أما زواجي الثاني فاستمر ٣ شهور.. وكنت وقتها في نهاية الأربعينات.. وبعد فشلي في المرتين.. فضلت البقاء منفردا.. ربما ليأسى في تحقيق ما كنت أحلم به.. أو لأن الكتابة تحتاج إلى صفاء ذهني وإلى الاحتفاظ بمسافة كافية بيني وبين صخب الحياة حتى أستطيع النظر إليها بشكل أوضح .
ابني علاء هو الآن أقرب أصدقائي.. ونشأته اختلفت عن نشأتي.. فقد توليت تربيته بالكامل ذهنيا وفكريا وتعليميا وتثقيفيا.. ورغم حبه للشعر.. فقد اختار العمل مهندسا.. وابنتي «آية» أيضا تدرس الهندسة.. أما «مي» ففي الصف الأول الثانوي.
أحلم بالوصول بالكتابة العربية إلى سقف البلاغة الأعلى.. وإعادة بناء المفاهيم العامة في العقل المصري والعربي المعاصر.. لأنها المتحكم في السلوك العام .. وعلى المستوى الشخصي.. أحلم برحيل هادئ.. وأرى الذين يرحلون.. يتركون الحقد والعنف والفوضى.. فيعبرون للنهار ويتركونني وحدي في الظلام.
يوسف زيدان.
تعليقك في إنتظار مراجعه المدير.
نأمل من الدكتور يوسف زيدان – العلامه وواسع الثقافه بل موسوعه ثقافيه – أن يكتب لنا عن تجربة والده وزواجه ست مرات ومدى خطورة هذا الأمر وتعارضه مع الفطره الانسانيه السليمه ومدى قباحة هذا الفعل ونكون له من الشاكرين لو يفعلها .