قرأت هذا الاسم أول مرة في عام 1988، في دروسي الجامعية قبل التخرج عن جغرافية سيناء ومواقع التعدين فيها.
حيرني الاسم ولم يهدني البحث إلى معنى له.
لم تفلح الزيارة العابرة في عام 1995 في أن تعطني شيئا عن حقيقة المكان، ولم ألمس صخوره وأجلس على حصى شطئانه مترويا في المعنى والمغزى إلا في عام 2007 حين وقعت في هوى المكان وصار جزء من حياتي.
أبو زنيمة ميناء لتصدير سبيكة الفيرومنجنيز (أو المنجنيز المطعم بالحديد) منذ زمن الاحتلال البريطاني نهاية القرن 19 ومطلع القرن العشرين.الإنجليز الذين جاءوا لاحتلال مصر اهتموا باعتبار بلادنا جسرا إلى الهند واهتموا كذلك بسلب ثرواتها المعدنية التي يجهلها المصريون، ولا سيما خامات المنجنيز من جبال غرب سيناء.
كان علم الآثار هو الهادي لعلم الجيولوجيا الاقتصادية، فحين توصلت الأبحاث الأثرية إلى مواقع التعدين المصري القديم منذ الأسرات الأولى في سيناء اهتم الاستعمار الأوروبي بالبحث عن مزيد من الثروات للصناعة.
في تلك الفترة كان الجيولوجي والجغرافي الإنجليزي الشهير “جون بول” قد سافر إلى سيناء وأعد دراسة وافية عن غرب وسط الإقليم تمهيدا للاستثمار الصناعي.
حين وصلت أبو زنيمة وتوغلت في وديانها رأيت بعضا من روافع التليفريك المعلق في السماء من آثار 100 سنة مضت. لقد جلب الإنجليز معهم تليفريك يأخذ الخامات من رأس الجبل وينزل بها إلى ساحل خليج السويس في نقلة تكنولوجية مبكرة في العالم.
خلال الفترة من 2008 وحتى 2012 صارت أبو زنيمة قبلتي ونسيت معنى الاسم وسط زحمة الصخور والصناعة القديمة والوديان والمنحدرات الوعرة وحبات التركواز المتناثرة منذ الحضارات القديمة.
وذات يوم، وبينما أعود من هضبة سرابيط الخادم – حيث معبد حتحور الشهير المجاور لاستخراج النحاس منذ عهد قدماء المصريين – نزلت إلى البلدة القديمة على البحر حيث أبيت كل ليلة.
كانت الشمس تنغمس في هدوء في مياه خليج السويس في رحلة غروبها مؤذنة بنهاية اليوم وواعدة باللقاء في صباح الغد من الجبهة الأخرى من فوق سرابيط الخادم.
كانت الرياح تحمل أدخنة المصنع وتلقي بها على بقايا مقام ومسجد قديم، فإذا بالدليل البدوي يتمتم في نفسه قائلا:”والله لم ينزل عليكم الخراب إلا بلعنات أبو زنيمة”وكأن أبو زنيمة حي يرزق واسم إنسان نسيته في غمرة الصخور والوديان فسألت البدوي الكريم عن تفسير لما قال.
كان المصنع يتراجع في إنتاجه مع تراجع التنقيب على الخامات حتى كاد يتوقف عن العمل.قال الشيخ البدوي: هذا ذنب أبو زنيمة !مضى الشيخ يخبرني أن البلدة وقبل أن يأتي الإنجليز بزمن بعيد وقبل أن يبدأ التعدين فيها، اتخذت اسمها منذ القدم تيمنا باسم الشيخ أبو زنيمة ( انتبهت لوهلة أن “شرم الشيخ” الغارقة في السياحة الأوروبية منسوبة إلى مقام شيخ من أولياء جنوب سيناء).
عوادم المصنع التي نزلت على مقام ومسجد أبو زنيمة وأضرت به جعلت المكان غارقا في الرماد والسخام والغبار ولم يعد أحد يسأل عنه ولا يهتم به.
“نزلت لعنات الولي الصالح على المصنع فتوقف عن الإنتاج” هكذا بكل بساطة وجد دليلي البدوي تفسيرا للموقف الجيولوجي والصناعي في المنطقة.
في اليوم التالي انطلقنا بسيارته المتهالكة نحو الشمال، كان الرجل يقود السيارة التيوتا وكأنه يركب جملا، يساعدها في الصعود بأن يهز مقود السيارة، أو يحدثها بكلمات مشجعة، أو ينزل عليها غضبه في مواقف التعثر الأخرى.
كان الرجل الخمسيني يمثل المرحلة الانتقالية بين الإبل والتويوتا.
ومع ذلك، لم يكن حديثنا يتوقف عن كل شيء، حدثني عن الشيخ “أبو جعدة” الذي كان يمشى على الماء في خليج السويس فقلت له إن هذه القصة نفسها سمعتها في مومباي عن الشيخ “حجي على بابا” الذي زرت ضريحه فرأيت آلافا من المريدين من الهندوس والمسلمين على السواء، لم يصدقني الشيخ البدوي وقالي لي أبو جعدة وأبو زنيمة هما الأصل.
أكملت السيارة المتهالكة رحلتنا ووصلنا إلى جبل “وطا” وهو كتف ممهد خفيض في هضبة عالية تفضي إلى صحراء التيه فقال لي “لقد انحنى الجبل لسيدنا موسى وانخفض ليعبره وقومه بعد هروبهم من مصر، ومن هنا جاء اسمه “وطا”.
عدنا أدراجنا إلى أبو زنيمة، مرت الأيام خلف الأيام، والرحلات بعد الرحلات، وبقيت أبو زنيمة اسما ملغزا، يدفعنا إلى التفكير في كل شيء في الحجر والبشر ولا يعطينا سوى القليل والقليل من الأسرار.
ورغم كل هذا الثراء فإن أبو زنيمة ليست إلا ورقة شجر واحدة على غصن متفرع من شجرة سيناء الباسقة الوارفة المحملة بكل ثمار المعارف والعلوم في الجغرافيا والسياسة والثقافة والجيولوجيا والأساطير.
نقلا عن صفحة الدكتور عاطف معتمد