كمال زاخر
9 ـ الفضاء القبطى : زحف الرهبنة واختلالات الأديرةـ
الخطوط الأولى للمشهد الذى نقترب منه تشكلت مع قدوم البابا كيرلس السادس، فى لحظة مرتبكة على المستويين الخاص والعام، ادرك البابا ان أزمة الكنيسة فى تراجع الوعى الجمعى بالليتورجيا، المخزون اللاهوتى المؤسس لحياة الكنيسة والحاوى لإيمانها، والموقّع على السنة الليتورجية بترتيب بديع، وقد تحولت فى المشهد المعاش، وقت مجيئه إلى موقع البابوية، إلى ممارسات رتيبة تؤَدىَ وكأنها فروض تطلب لذاتها، نؤجر عليها أو ندان، كانت خبرته تتجاوز مفهوم الفروض الى براح المعايشة والإمتلاء.
كان المذبح هو مكان اللقاء اليومى له مع الله، وفيه يضع أمامه كل ما يثقل كاهله من متاعب وطلبات وما حُمِّل به من احتياجات الرعية، ويغادره ومعه إجابات وتعزيات الملء التى يراها من يلتقيه تنويعات على الشفافية، استدعى هذا أن يعيد الاهتمام بالصلوات الليتورجية، القداس والتسبحة، وعادت صلوات الإجبية الى موقعها، وبدأت روح جديدة تنعش جسد الكنيسة، واستدعى نشطاء الشباب من الرهبان ودفع بهم فى مواقع الأسقفية فيما عرف بالأسقفيات العامة، التى تقوم ـ وقتها ـ على خدمة عامة دون أن يكون لها رعية محددة أو حدود جغرافية محددة، بعد نحو ثلاث سنوات من حبريته (1962)، اسقفية التعليم واسندت إلى الأنبا شنودة، واسقفية الخدمات والمهجر واسندت إلى الأنبا صموئيل، ثم بعد سنوات قليلة (1967) يثلثهما باسقفية الدراسات اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي وتسند للأنبا غريغوريوس.
التقطت قرون استشعار الشارع القبطى اشارات البعث الجديد التى تولدت من حراك الشباب الجامعى المباغت باتجاه الأديرة طلباً للرهبنة، باختلاف مآربهم وتطلعاتهم، وقداسات البابا الجديد اليومية، واهتمامه بتنبيه الذهن القبطى لأهمية الزخم الليتورجى القبطى وتطبيقاته اليومية، القداس صباحاً والتسبحة ليلاً، فى تقليد أحياه وانتقل منه إلى كثير من الكنائس فى الأحياء والقرى المصرية.
وهو أمر لازمه منذ تحرك قلبه تجاه الرهبنة، التى عمقت توجهه النسكى، وهو ما يرصده الباحث والمؤرخ الأستاذ أمير نصر فى كتابه “قراءة فى حياة ابونا مينا البراموسى ـ البابا كيرلس السادس” : (وفي أمور كثيرة نستطيع أن نكتشف تأثير الرهبنة في حياته وعمق إختبارت الوحدة في داخله.
لذلك أحترم كل َمن حوله هذا المنهج النسكي الذي عاش به أبونا مينا، وقبلوه وتعاملوا معه على هذا الأساس…).وعلى الرغم من هذه العلاقة الوثيقة ـ وربما بسببها ـ نرصد أنه اصدر قراراً يقضى بعودة الرهبان المقيمين خارج اديرتهم لغير سبب خدمى أو علاجى، إلى اديرتهم، فى غضون مدة حددها القرار وإلا فينتظرهم قرار بفصلهم من الرهبنة، واللافت أن هذا القرار يتكرر مع كل بطريرك قبل وبعد البابا كيرلس، وقد تحتاج هذه الظاهرة لدراسة وحلول موضوعية وعملية. كان من تداعيات موجات التفاعل مع اشارات البعث هذه أن انتعشت حركة الرهبنة جراء اقبال الشباب على طرق ابواب الأديرة طلباً لها، فى تواز مع زيادة وانتعاش حركة زيارة الأديرة من الأسر القبطية طلباً للبركة أو سعياً لاستجمام روحى ونفسى فيما عرف بالخلوات الروحية، وقد زادت وتيرة الزيارات مع شق الدولة للكثير من الطرق الصحراوية لأغراض التنمية، ومنها ما يمر بالقرب من الأديرة، ولنعرف كيف كان الحال مختلفاً وشاقاً حين قصد الشاب عازر يوسف الرهبنة (1927) ـ البابا كيرلس السادس فيما بعد ـ نقرأ ما كتبه هو فى مذكراته ونقله عنه الكاتب أمير نصر فى المرجع السابق الإشارة إلية (يكتب أبونا مينا عن يوم دخوله الدير وقبوله راهباً بإسم مينا البراموسي فيقول: … وكان يوم تركت العالم من أسعد أيام حياتي.
فتوجهت لدير البراموس الكائن ببرية شيهيت. ووصلنا الى بلدة الهوكارية الساعة العاشرة مساءً، ومنها وصلنا الدير الساعة الثانية بعد منتصف الليل.). الهوكارية فيما اظن قرية تقع فى زمام وادى النطرون!!.
بما يعنى أن الوصول الى الدير عبر المدقات داخل وادى النطرون استغرق وقتها نحو اربع ساعات، فيما لا يستغرق الوصول اليوم من القاهرة أو لاسكندرية حتى باب الدير اليوم اكثر من ساعتين.
كان من نتائج تغير نوعية التركيبة الرهبانية بدخول خريجى الجامعات أن تغير مفهوم “عمل اليدين” المعروف فى ادبيات الرهبنة وتراثها، نقلاً عن مؤسسها الأنبا انطونيوس من القرن الرابع، وكان مشغولات الخوص التى تشغل وقت الراهب وتوفر له الحد الأدنى من الدخل والذى يتماشى مع احتياجاته البسيطة، فصار الآن استصلاح الأراضى الصحراوية فى محيط الدير واستزراعها وفق أحدث الطرق، وما استتبعه من تصنيع زراعى فضلاً عن الثروة الحيوانية والداجنة، المترتبة على الاستصلاح، الأمر الذى انعكس على ترتيب يوم الراهب وطبيعة العلاقات داخل الدير، ويحتاج إلى تغيير فكر ادارة الأمر بالطرق التقليدية، بما يوفر حماية للراهب والدير، قد يحتاج الأمر إلى انشاء ادارة ديرية عامة مركزية تتولى الفصل بين الملكية والإدارة، تؤول اليها ايرادات تلك المشاريع وتتكفل بتوفير احتياجاتها، وتقوم بتوزيع صافى الدخل على كافة الأديرة كل حسب احتياجه، وهو تصور يتفق مع قواعد الرهبنة ونذورها الأساسية وفى مقدمتها الترك وعدم القنية (الاقتناء) والتكافل وانكار الذات.
ولعل الكنيسة تنتبه إلى أن الرهبنة منظومة علمانية، سواء فى تأسيسها أو فى تطورها، وكان كل دير يختار رئيسه من بين رهبانه، ولا يشترط أن يكون حاملاً لرتبة كهنوتية، وإن حملها فلا تتجاوز رتبة الايغومانوس (القمص)، وكان هذا يسمح للدير بمرونة فى تصويب أوضاعه حال تعرضه لأزمة مع رئيسه، وهو الأمر الذى يتعذر فى حال اسناد ادارته لأسقف.
وظنى أنه كان توجها متعمداً لربط الأديرة قسراً برؤية القيادة الكنسية، بالمخالفة لطبيعة وفلسفة الحياة الديرية، والتى بحسب التاريخ تضم تنويعات من التوجهات التدبيرية المتمايزة، بعيداً عن دائرة العقائد التى تجمعهم فيما بينهم وتجمعهم مع الكنيسة، ومن هنا جاء الثراء الرهبانى، ورسامة اسقف لكل دير يأتى بمثابة تأميم الحياة الديرية وقولبتها.
اللافت فى النصف الأخير من القرن العشرين والعقدين اللذين انقضيا من القرن الحالى منح رهبان الدير رتبة كهنوتية وفق قوائم انتظار مرتبة سلفاً، بعد أن كان لكل الإسقيط كاهن واحد يعرف بقس الاسقيط، وكان الرهبان بالآلاف وقتها.
وقد شهدنا فى العقود الماضية كيف استخدمت هذه الآلية كأداة لمعاقبة الرهبان المغضوب عليهم داخل الأديرة من القيادة الكنسية عن طريق تخطيه فى الرسامة فى دوره، ومن النوادر التى شهدتها أن الراهب الذى يصر على بقاءه راهبا دون أية رتبة كهنوتية، يحسبه اخوته أنه يعيش فى “الجاهلية”، ويتندرون على غفلته بحسب تصورهم!!.
والأغرب حين يقرر راهب العودة الى حياته المدنية تاركاً الرهبنة، وقد أدرك أنها ليست دعوته، يحسب خارجاً على الكنيسة وقد يقطع من شركتها، وقد تمتنع عن الموافقة على زواجه، فيضطر للزواج خارجها، وظنى أنه فى عودته للحياة المدنية كان صادقاً مع نفسه، فما الرهبنة لمن اختارها إلا طريقاً ضمن بدائل للأبدية، وليست بالضرورة الطريق الأفضل فى كل الأحوال، وقد نكون بحاجة إلى فتح الباب لمن يرى أن العودة للحياة المدنية أفضل دون أن تحاصره الملاحقات الكنسية، فالرهبنة فى كل الأحوال ليست درجة أو ترتيب كهنوتى.
والإصرار على بقاءه تحت لوائها سيحوله إلى لغم قيد الإنفجار وعبئاً على الدير والكنيسة. وفتح باب الخروج الآمن من الرهبنة سيعيد لها سلامها واستقرارها، بعد أن تتخفف من حمل من قصدها بحثاً عن بديل للبطالة خارجها، ومن كان سعيه الوصول الى موقع متقدم فى هرم الكنيسة الخدمى، ومن قفز الى دائرتها للتخلص من تجارب حياتية فاشلة، ومن يعانى من ضغوطات نفسية وربما عقلية ظن أن علاجها سيجده فى دروبها، ومن ارادها مجالاً للتربح والتحقق، وهؤلاء قد يُختار من بينهم من يرسم اسقفاً فيصدِّر معاناته واختلالاته الى رعيته وتدفع الكنيسة فاتورته.
ومن يقترب من المشهد الديرى المعاش يكتشف بقليل من الإنصات إلى شهادات من بقى من شيوخها اختفاء التلمذة وانقطاع التواصل الجيلى والأسباب متعددة، حتى لم يبقى من الرهبنة إلا شكلها الخارجى، وصارت نذورها مهددة وربما مجروحة.
قدر من التصحيح يحمله الشروع فى تدشين نسق “الرهبنة الخادمة”، والتى اختبرتها كنائس تقليدية رسولية عريقة، بجوار الرهبنة التقليدية، وفك الارتباط بينها وبين الكهنوت.
ويبقى فى هذا السياق ما شهدته الكنيسة من سعى حثيث لرهبنة الفضاء الاجتماعى للكنيسة خارج الأديرة وهو ما سنقترب منه فى سطور قادمة.