تعد منطقة حلايب في أقصى جنوب شرق مصر بمثابة الطرف الشمالي للوطن الكبير لشعب “البچا” الممتد بين وادي النيل غربا والبحر الأحمر شرقا في أراضي مصر والسودان وإثيوبيا وإريتريا.
طارت سمعة البچا في الأوساط الأدبية العالمية في مطلع القرن 20 بعد حصول الأديب الإنجليزي روديارد “كبلنج” على جائزة نوبل في 1907.
كان إبداع “كبلنج” الذي استحق به نوبل يكمن في القصة القصيرة والشعر.
وفي واحدة من أشهر قصائده أديب واحدة تسمى الفاظي واظي Fuzzy-Wuzzy”.
في هذه القصيدة يمجد الشاعر المهارات القتالية لشعب البجا بعد المعارك الباسلة التي خاضوها لمقاومة الاحتلال الإنجليزي في البحر الأحمر والسودان متضامنين مع الثورة المهدية.
نجح البجا في “كسر المربع” وهو ما لم يفعله أحد من قبلهم في المستعمرات الإنجليزية. يقصد بالمربع الحشد العسكري للقوات البريطانية التي كانت تقاتل في صفوف متلاصقة متلاحمة. وحين يتمكن الخصم من تشتيت هذه الصفوف فإنه حقق فوزا يسمى “كسر المربع”.
ترتبط القصة بأحداث الثورة المهدية (1881-1899) التي رغم أنها تمركزت في نهر النيل في عمق السودان إلا أنها لم تكن لتحقق نجاحا مدويا وانتصارت كبرى في البداية إلا بدعم ومدد من قبائل ” البچا ” المعروفة بالبأس والشدة والقتال والجلد.
تلقى الجيش الإنجليزي هزائم عديدة على يد قبائل البچا في السودان الذي كان يعرف آنذاك باسم “السودان المصري/الإنجليزي”.
كانت هذه التسمية في نهاية ق 19 و مطلع ق 20 تعكس دهاء الاستعمار البريطاني لوضع قناع مصري على استعمارها في السودان والبحر الأحمر.
نعود إلى كبلنج أديب نوبل في قصيدته التي نظمها على لسان جندي إنجليزي مفتون بمهارة وبسالة مقاتلي البچا الشجعان (خاصة في معركة طماي قرب “سواكن” على البحر الأحمر في شرق السودان عام 1884) حين تمكن البچا من تحطيم الهجوم البريطاني قبل أن ينهزموا في النهاية (هناك فارق كما بين السماء والأرض بين الهزيمة والانكسار!).
صحيح أن النصر كان في النهاية للقوات الغازية الأحدث تسليحا لكن “كبلنج” أديب نوبل يخبرنا على لسان الجندي في قصيدته مندهشا من صلابة مقاتلي “الفاظي واظي” الذين لم ير مثيلا لهم في كل البلاد التي غزتها بريطانيا فيما وراء البحار.
الفاظي واظي Fuzzy-Wuzzy ليس اسما من لغة أهلنا البچا ولم يطلقوه على أنفسهم وليس اسما عرقيا في أي من القواميس اللغوية العالمية.
ولو فتحت قاموسا إنجليزيا اليوم ستجد أن الكلمة أصبحت تعني “كل ما هو نافر على غير نظام” والأرجح أن هذا الوصف أطلقه الإنجليز على طريقة تصفيف شعر رجال البچا التي يبدو فيها الشعر المجعد وقد انتصب لأعلى في شكل بري (تسببت فيه بالطبع حياة الشظف وقله موارد مياه الصحاري).
حين نمضي في القصيدة سننسى أن ” الفاظي واظي Fuzzy-Wuzzy” اسما للشكل البري البدائي لشظف العيش والبداءة الحضارية بل سيصبح الاسم دلالة على الإقدام والبسالة والقتال الفدائي في سبيل الحرية.
يصف كبلنج البجا بالمحاربين على الخيول في ساحات المعارك، أما في بيوتهم فيعشقون الموسيقى خاصة حين يعزفون على البانجو Banjo أي القيثارة التقليدية.
في قصيدة أديب نوبل يتعجب الجندي البريطاني من هذا “الفاظي واظي Fuzzy-Wuzzy ” ذي المظهر المتقشف الأقرب للهمجية وأسلحته القديمة من سيوف ورماح ودروع لا تقارن بنيران المدافع الحديثة، ومع ذلك فإن “الفاظي واظي” مقاتلون من طراز رفيع. يمضي كبلنج فيقارن الصعاب والمواقف العسكرية الحرجة التي تعرض لها الجنود البريطانيون على يد مقاتلين أشداء بواسل في كل ربوع الهند والقارة الإفريقية، لكنه بعد أن يعدد ذلك يقول:”ولا شيء مما رأينا وعانينا يقارن بما فعله الفاظي واظي بنا من قتال وبسالة وعناد ورفض الهزيمة، إذ كانوا يخرجون من بين غبار المعركة ودخان البارود فنجدهم فوق رؤسنا كرمال الصحراء الملتهبة”.
يرفع الجندي البريطاني – يمضي كبلنج في قصيدته – التحية لمقاتل “الفاظي واظي” وزوجته وأطفاله .
صحيح أن مقاتل “الفاظي واظي” هُزم في النهاية لكن الجندي البريطاني يتمنى لو يمنحه شهادة ووسام، يتمنى أن يطلق صيحات المجد تكريما له حيثما نزل الفاظي واظي في أي أرض تخليدا لشجاعته وبسالته (رغم هزيمته).
يدرك الجندي البريطاني – في قصيدة كبلنج – أن “الفاظي واظي” لن يكتب تاريخه بنفسه، بل وربما ضاع تاريخه في الصحراء، ولن يحصل على ميداليات وأوسمة على صدره، ولكل هذا فإن هذه القصيدة تسجل ذلك وتنادي:”عاش الفاظي واظي !”.
نقلا عن صفحة الدكتور عاطف معتمد