كمال زاخر
مشهدان باعد بينهما الزمن لقرون، لكنهما قد يقدمان لنا مداخل تفكك تشابكات الحالة القبطية الكنسية المعاشة، الأقرب زمناً من لحظتنا، مشهد عشته قبل اربعة عقود أو نحو ذلك، والثانى احداث اقترب منها أحد الباحثين المدققين تدور فى النصف الأول من القرن الرابع الميلادى، فيما يجلس ذاك الباحث يقلب فى مخطوطاته وأوراقه، فى واحدة من قرى الوجه القبلى، الصعيد كما نسميه، موزعاً بين التزاماته الطقسية لكونه من رجال الإكليروس، وبين شغفه بالبحث والتنقيب.
مسرح احداث المشهد الأول كنيستنا الأثيرة مارجرجس بالقللى، الوقت صباح يوم “أحد”، ابونا القمص، وهو شيخ طاعن فى السن، يصلى القداس ومعه كاهن شريك، شاب يافع تدرك من ملابسه أنه راهب من أحد الأديرة، اللافت أن ابونا كان حريصاً على تقديم هذا الشاب عليه، يتعامل معه بحرص شديد يوحى لك بأن الشاب هو الأكبر وأن ابونا القمص هو الشريك، وظننت وقتها أنه من فرط محبته وترحيباً بالشاب الصغير، لم أكن وحدى الذى لاحظ ذلك، فبينما نستبدل ملابس الشموسية بعد انتهاء القداس، همس صديقى الشماس فى أذنى “شفت ابونا القمص راجل واعى وفاهم الدنيا صح!!”، ولم يزد، كعادتى كنت ارافق ابونا الشيخ فى رجوعه لبيته القريب من الكنيسة، ورغم فارق السن كنا أصدقاء، قلت له هل من تفسير لما رأيته من معاملة مجاملة لذاك الراهب؟
هل من باب الاتضاع والمحبة كدأبك مع ضيوفنا؟، ابتسم ابتسامة تحمل خبرة السنين؛ ـ يابنى الرهبان لا ينسون!!
مش فاهمـ من المحتمل أن يصير هذا الشاب يوماً اسقفاً، وقد تكون كنيستنا ضمن زمام اشرافه، ساعتها ستكون علاقته بى مؤسسة على مثل هذه المواقف، سيعتبر التعامل الطقسى وفق ترتيب الكنيسة اقلال منه، وأنا يا ولدى شيخ متقدم فى ايامى ولا احتمل ردود افعالهم، انهم قد يغفرون لكنهم لا ينسون.
تذكرت هذا الحوار المقتضب، وانا اتابع رد قداسة البابا ـ الراحل ـ على أحد “اسئلة الناس” عن موقفه الحاد من مخالفيه رغم سنوات الصداقة الطويلة، والتى تتعارض مع مبدأ الغفران، فأجاب بأن هناك فرق بين الغقران والنسيان، ونحت مقولته البليغة “أنا استطيع أن أغفر لكننى لا استطيع أن أنسى”.
وذكرنى هذا الحوار بواقعة حدثت فى واحدة من كنائس روض الفرج (شبرا)، رواها صديقى وقت أن كنت اكتب بمجلة “مدارس الأحد”، أن شاباً من خدام الكنيسة اشتاق للرهبنة، وكان لذلك كثير التردد على اديرة وادى النطرون، وعندما حزم أمره طلب منه المسئول فى الدير أن يأتى بـ “خطاب تزكية” من أب اعترافه، مع الاوراق الثبوتية وما يفيد انتهاءه من اداء التجنيد الاجبارى أو الإعفاء منها، رتب أوراقه وقدمها، وتم قبوله فى صفوف طالبى الرهبنة، واجتاز فترة الاختبار التى امتدت لأكثر من عام، وتم قبوله راهباً.
يوماً قرر خدام تلك الكنيسة الذهاب فى رحلة لهذا الدير، ومعهم ابونا القمص صاحب خطاب التزكية، اقترب أحد الرهبان الشيوخ من المسئول عن الرحلة ليستوثق منه أنه من ذات الكنيسة التى أتى منها ذاك الراهب الشاب، فاتجه لأبونا القمص وسأله هل تعرف ابونا الراهب فلان، أجابه دا كان ابنى فى الاعتراف وأنا من كتبت له خطاب التوصية، خير يابونا؟
قال له الاب الراهب بصوت خفيض كنت انتظر مجيئكم لالتقيك وأشكو لك تصرفات هذا الشاب وحدته فى التعامل مع اخوته، كويس انك جيت، سأخبره بقدومكم، واتمنى أن تجلس معه وتطلب منه ان يصحح طريقة تعامله بما يتفق وحياة الرهبنة بل وحياة المسيحى العادى.
رد ابونا القمص بنفس الصوت الخفيض: متشلش هم يابونا وامسحها فىَّ.
جاء الراهب الى القاعة التى يجلس فيها الشباب، وتبادل معهم الترحيب والسعادة باللقاء، طلبه ابونا القمص فى جلسة منفردة، واطمئن على أحواله، ثم نقل اليه شكوى اخوته بالدير، وبدأ فى الكلام عن نذور الرهبنة، ومحبة الإخوة، لكنه لم يستطع أن يسترسل فى كلامه، اذ وقف الراهب الشاب مقاطعاً وموجهاً كلامه لأبونا القمص بحزم وثقة، يبدو يابونا انك نسيت أنك كاهن علمانى وأنا كاهن راهب، ولا يحق لك توجيهى.
وأقفل راجعاً إلى حيث كان!!، وبقى ابونا القمص صامتاً بقية اليوم وحتى عودة الرحلة.
صمت الكاهن لم يوقف سيل الأسئلة عن ازمة الرهبنة المعاصرة وما اقتحمها من متغيرات:
هل صارت تنويعة على التجمعات الأحادية النوع، بمتاعبها واختلالاتها؟،
هل اختفت التلمذة ومن ثم التسليم؟، هل صارت عبئاً على الكنيسة بعد أن كانت الداعم الأكبر لها؟
هل صارت رافداً اكليروسياً بعد أن كانت بحسب مؤسسها كياناً علمانياً قائماً بذاته؟
هل كان للتغيرات التى اقتحمتها بفعل التطور خارجها أو بفعل الضغوط الحياتية للأجيال الذين انبهروا بالرعيل الأول من رهبان مدارس الأحد، يد فى ارتباكاتها داخل وخارج اسوارها؟
هل كان لتطور نمط الحياة الديرية ودخولها فى دوائر الإنتاج الزراعى والحيوانى والداجنى الموسعة وما استتبعه من تصنيع زراعى وتسويق دور فى خفوت الدور الروحى لها؟
هل مازالت نذور الرهبنة قائمة؟
هل رسامة اسقف لكل دير هو مصادرة على تمايزات التجمعات الرهبانية؟
هل تحتاج الكنيسة للتفكير فى انساق الرهبنة الخادمة بجوار الرهبنة التقليدية، رهبنة البحث والعمل الاجتماعى بتنويعاته؟ الأسئة لا تتوقف.
يبقى الاقتراب من الكتاب أو قل الكتيب الذى اصدره الأب الكاهن والذى يقرأ بشكل مختلف واقعة زيارة مؤسس الرهبنة الأنبا انطونيوس لأول السواح الأنبا بولا، وما دار بينهما من حديث حول رداء البابا البطريرك الأنبا اثناسيوس الرسولى، ورحلة الرداء من قصر الإمبراطور قسطنطين الى مقر البابا بالإسكندرية ثم الى مغارة الأنبا بولا بصحراء البحر الأحمر، ونحيله إلى مقال تال، لما يحمله من عصف ذهنى لم نعتده فى تحليل مثل هذه الأحداث، حتى أن كاتبه تراجع عن طرحه بالمكتبات واحتفظ به فى خزانته، تحسباً لردود الفعل فى مناخ صارت فيه اعصاب القارئ المؤمن فوق جلده.