كمال زاخر
قبل نحو نصف قرن وبضع سنوات، تحديداً فى العام 1968، شهدت كنيستنا المحلية ـ مارجرجس بالقللى ـ رسامة أول كاهن يخصص لخدمتها، القس منسى فرج، بعد سلسلة ممتدة من الكهنة الأتقياء الذين يتم نقلهم من كنائس وربما ايبارشيات أخرى للخدمة بها بشكل مؤقت، كانوا يأتون محملين بمشاكل وأزمات بينهم وبين كنيستهم او بينهم وبين اسقفهم، أو بينهم وبين مجلس كنيستهم.
كان البابا كيرلس يسارع بنقلهم الى كنيستنا ليفض الاشتباك وحتى يكون الكاهن بالقرب منه يتابعه ويراقب التزامه، وتصحيح مساره، فيعيده إلى كنيسته.
لذا فهو بالنسبة لكنيستنا المحلية “كاهن ترانزيت” يرى فترة وجوده هذه أقرب إلى العقوبة، وكان لهذا انعكاساته على خدمته، فوجوده المادى هنا بينما قلبه هناك.
لكن هذا لا يمكن تعميمه كقاعدة، فقد كان بينهم من يرى يد الله فى نقله. وأنه محمل برسالة يؤديها حيثما يرسله الله.لهذا كانت فرحتنا غامرة بالكاهن الجديد، شاب يافع مجتهد مقبل على الخدمة، يعشق الليتورجيا، والألحان والطقوس الكنسية، بادرنا؛ صديقى صبحى صموئيل وأنا، بالذهاب اليه فى محل اقامته بعد الرسامة حيث يقضى فترة اربعين يوماً كترتيب الكنيسة لإعداده لخدمته فى دقائق جانبها الطقسى والمعروفة بفترة استلام الذبيحة، وكانت اقامته ببيت المطارنة الملاصق لمقر إقامة البابا البطريرك، بالكنيسة المرقسية بكلوت بك.
ذهبنا ومعنا كتابين للقس منسى يوحنا (1899 ـ 1930) ـ أحد نوابغ الكهنة الشباب والذى أثرى المكتبة المسيحية بالعديد من الكتب الروحية والتاريخية وفى مقدمتها “تاريخ الكنيسة القبطية” أحد اهم المراجع فى التأريخ الكنسى ـ تيمناً بأن كاهننا على اسمه، وتطلعاً لأن يكون فيه من روحه.
كان المشهد جدير بالتأمل، يجمع بين شاب مولع بالألحان القبطية يملك حنجرة ذهبية وبطريرك يتماهى مع الصلاة ويعتبرها خبز يومه، لكن هذا المشهد رحل مع رحيل البابا البطريرك، لتبدأ رحلة رهبنة الفضاء القبطى خارج الأديرة، إذ تقرر أن يمضى الكهنة الجدد اربعينية اعدادهم الطقسى داخل احد الأديرة، ليعودوا الى كنائسهم بهوى رهبانى بأقدار متباينة.
لم يكن الأمر بظنى محض مصادفة، بل كان وراءه عقول تملك رؤية واضحة، وهدف محدد، كان يسيطر على طيف من الرعيل الأول من كوادر منظومة مدارس الأحد، جيل شباب الأربعينيات الواعد من القرن المنصرم. والذى تفتح وعيه على تناقضات المشهد المصرى السياسى والدينى.
كانت سنى ولادتهم تتماس مع تفجر ثورة 19 أو بعدها بسنوات قليلة، وتحتشد بالوهج الوطنى، المطالبة بالاستقلال، قبل أن يصدمهم اعلان تشكيل جماعة الإخوان (1928) التى تبنت الدعوة والعمل على اعادة احياء الخلافة بعد سنوات قليلة من سقوطها فى طورها العثمانى، (1922)، كان المشهد يشمل كل الجيل بأطيافه الاجتماعية والدينية، ومنه تشكلت الخريطة السياسية والحراك السياسى لذاك الجيل.
وأنا هنا اتناول ما يتعلق بالجانب القبطى، لذلك سأكتفى بالقول أن على الجانب الأخر ظهر تأثير الحدثين؛ ثورة 19 وتأسيس جماعة الإخوان فى التكوين الفكرى والسياسى لما عرف بإسم “تنظيم الضباط الأحرار”، والذى كان له موقفاً متحفظاً تجاه ثورة 19، فيما افسح مساحة فى تكوينه لجماعة الإخوان، وحين قيض له أن يتولى السلطة فى 1952 كان من بين الحقائب الوزارية وزارة الارشاد القومى والتى تتولى وضع السياسة الإعلامية العامة للدولة ومخاطبة الرأي العام في الداخل، والتواصل مع العالم الخارجي، وربما يكون المسمى مستوحى من نظيره فى تنظيم تلك الجماعة، وما يدعم ذلك استبداله باسم الثقافة والإعلام على إثر الصدام بين الجماعة وبين مجلس قيادة الثورة 1954.
واللافت عودته مجدداً حتى رحيل الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.كان جيل شباب الأقباط الذى شب عن الطوق فى اربعينيات القرن العشرين يعيش مناقضة المد الوطنى ترتيباً على ثورة 19 والمد الدينى ترتيباً على تأسيس جماعة الإخوان، حين اراد أن يجد لقدمه موضعاً فى الشارع السياسى، كانت الغيوم تملأ فضاء الأحزاب، وكان الهوى الطائفى يتسلل إلى الشارع.
كانت تجربتى جماعة الأمة القبطية ومنظومة مدارس الأحد ابرز التكتلات القبطية تأثراً وتأثيراً بالمناقضة التى أشرنا إليها، فبينما تبنت الأولى طريق المواجهة حتى المصادمة، تبنت الثانية سياسة النفس الطويل والتغيير المرحلى.
لكنهما اتفقتا على التربص بالبابا البطريرك الأنبا يوساب الثانى، وكان لكل أسبابه، ففى حين رأت جماعة الأمة فيه رجلاً ضعيفاً ترك زمام أمور الكنيسة فى يد تلميذه، كما روج وقتها عبر كلام مرسل لم يقم عليه دليل، كانت جماعة مدارس الأحد تراه خطراًعلى الكنيسة بتوجهاته للتقارب مع الكنائس الخلقيدونية، يدعمهم اساقفة يتوجسون من دراساته اللاهوتية فى اليونان، لكن كلاهما ـ مدارس الأحد والاساقفة ـ لم يعلن ذلك، وحشدوا مجلة مدارس الأحد بسيل من المآخذ الطقسية والإدارية.ثمة ملاحظات على سير هذه الأمور وقتها:
أن جماعة الامة القبطية، ظهرت واختفت فى غضون عامين، فى اعطاف ثورة 52، وكان لها موقعاً قريباً من قيادتها، بجناحيها، سجلتها صور قيادة الجماعة، الأستاذ ابراهيم فهمى هلال المحامى، مع كل من محمد نجيب وجمال عبد الناصر.
البيان التأسيسى للجماعة وشعارها جاءا محاكاة تكاد تصل للتطابق مع نظيرهما عند جماعة الإخوان.
وفى احتفال الجماعة بمرور عام على تأسيسها والذى اقيم بجمعية التوفيق القبطية ـ 1953 ـ أعلن أن عضويتها تجاوزت التسعين الف،
وثالث الملاحظات، وتزامن توقيت القبض على هلال وقيادات الجماعة مع دخول الاستاذ نظير جيد الدير قاصداً الرهبنة، رغم أن كلاهما أكد على عدم انضمام الأخير للجماعة،
أما أخر الملاحظات اللافتة، أن محاكمة هلال وحل جماعته لم يكن لهما علاقة بحادثة اختطافهم للبابا يوساب، الذى من منطلق ابوته وحرصه على مستقبل هؤلاء الشباب، ناشد قيادة الثورة بالإفراج عنهم، واستجيب لطلبه، انما جاءت المحاكمة لاحقاً والادانة وقضاء عقوبة السجن كاملة على خلفية المذكرة التى قدمتها الجماعة للجنة اعداد الدستور التى ترأسها الدكتور عبد الرزاق السنهورى، وكانت الصراعات بين اجنحة ضباط يوليو خلف كل هذا.كانت شباب اللجنة العليا لمدارس الأحد يسعون لكسر احتكار الرهبان للرسامة لرتبة الأسقفية، اعتماداً على أن تاريخ الكنيسة يحفل بالعديد من الاساقفة بل والبطاركة الذين اختيروا من غير الرهبان، تجار واراخنة ومزارعين وكانت لهم بصماتهم فى حبريتهم، فبادروا بالدفع بإسم رائدهم الاستاذ حبيب جرجس للرسامة اسقفاً للجيزة عقب خلو كرسيها، لكن مجمع المطارنة والاساقفة رفض هذا السعى تماماً وابطله.
ويرقب شباب اللجنة هذا ويتابعون فشل اقصاء البابا يوساب عن الكرسى بالقوة، وما آلت اليه حالة جماعة الأمة القبطية، ويدركون أنه لا تغيير يأتى خارج منظومة الرهبنة فيبادرون بالالتحاق بالرهبنة، فيما ينتصف العام 1954، وفى الأيام الأخيرة للعام 1956 يرحل البابا يوساب فيبادر شباب رهبان مدارس الأحد ولم يمض على رهبنتهم عامين بالترشح للكرسى البابوى فى ترجمة على الأرض لمخططهم، فتباغتهم تعديلات لائحة انتخاب البابا البطريرك فيما يتعلق بشروط الترشح، وقد تضمنت ألا يقل السن عن اربعين عاماً وألا تقل سنوات الرهبنة عن خمسة عشر عاماً، فيجدوا انفسهم خارج قوائم المرشحين لعدم استيفائهم لهذين الشرطين، وكان فى مقدمة المستبعدين الراهب متى المسكين والراهب انطونيوس السريانى.
لم يستسلم المستبعدون فيدفعون باسم ابيهم الروحى الراهب مينا المتوحد والذى يحظى بموافقة جمعية الاخبين ليصبح البابا كيرلس السادس، ومن خلاله يجدون لهم مواقع اسقفية كما أوضحنا فى الحلقة السابقة من مشاهداتنا الإكليروسية.
ثمة ملاحظة عابرة حول شخصيتين كان لهما دور إيجابى وفاعل فى نهضة الكنيسة، الاستاذ حبيب جرجس والبابا كيرلس السادس، ومن عندهما انطلق قطار هذه النهضة، وفيما يتعلق بشباب اللجنة العليا لمدارس الأحد لا يمكن اغفال دورهما فى مسارات هؤلاء الشباب، فالأول اختارهم ووضعهم على قمة منظومة مدارس الأحد والثانى ضمهم الى صفوف القيادة العليا للكنيسة، ويربط البعض بين هذا وبين اعتمادهما ضمن قديسى الكنيسة مؤخراً(يونيو 2013).
ومازالت جعبة المشاهدات مليئة بالأحداث الجديرة بالطرح.