كمال زاخر
كان بيتنا الكبير يشهد العديد من زيارات الآباء الكهنة، اصدقاء والدى، ربما لأنهم يأتنسون برأيه الذى يحمل خبرة السنين وحنكة التاجر وتقوى القبطى العاشق لكلمة الله.
لم يجبرنى يوما على الذهاب للكنيسة لكننى كنت مبهوراً به، رغم قسمات وجهه الصارمة، كنت اتتبع خطواته وانتظامه يوم الأحد فى الذهاب الى الكنيسة واختياره الصف الأخير للصلاة، كنا وقتها فى منتصف خمسينيات القرن العشرين وكنت اقترب من الثامنة من عمرى، ورغم ان كنيسة الحى باسم مارجرجس إلا انها عرفت شعبياً بكنيسة سرجيوس، خطيب ثورة ١٩، وقتها كان قد ابعد لاسباب لا أعرفها، لم يذهب بعيداً بل اختار ان يعيش بالقرب منها، فى حى جزيرة بدران، لكن اسمه كان عصياً على الإقصاء.
تعاقب على خدمة الكنيسة عشرات الكهنة الاتقياء، تابعت من خلالهم التطورات التى لحقت بطبيعة خدمتهم، كان الكاهن فى عقدى الخمسينيات والستينيات يحرص على ارتداء “الفراجية” وهى اشبه بعباءة الفلاح ذات اكمام متسعة، يرتديها فوق الروب الإكليريكى، صيفاً وشتاء، وتصنع فى الغالب من الصوف، ولونها اسود دائما، فيما تتعدد الوان الروب تحتها، ما بين البيچ والبنى والرمادى، والعمامة متعددة الخامات، فهى تصنع من الجوخ المضغوط، وبعضها من اشرطة سوداء رفيعة مشدودة على قالب مستدير، فيما تتميز عمامة القمص بتوسط عمامة حمراء صغيرة للعمامة السوداء، لتقترب من عمامة عمدة ووجهاء القرية مع اختلاف خامات كليهما، وفى كل الأحوال كان القس والقمص حريصان على تهذيب لحاهم.
لم تكن احوالهم المادية تسمح لغالبيتهم بامتلاك سيارة خاصة، فكان من المألوف ان تراهم يجاورونك فى الترام أو الاتوبيس أو تصادفهم فى الأسواق العامة.
كان من المعتاد أن تسند عظة القداس لأحد أراخنة الكنيسة ممن يمتلكون موهبة الوعظ، فيما يكتفى الكاهن بمهمة الصلاة، دون ان يجد فى هذا انتقاصاً منه او تخطياً له. كنيستنا على بعد دقائق من الكنيسة المرقسية – مقر البابا البطريرك آنذاك – وقتها كان عدد الاباء المطارنة والأساقفة حوالى ثمانية عشر تقريباً، وكان قدوم أحدهم للصلاة فى كنيستنا أقرب الى اعتباره يوم عيد، على المستويين الشعبى والرسمى، فما بالنا لو كانت الزيارة من البابا البطريرك، والتى رغم بساطته كانت محوطة بالمهابة والبهجة.
يرحل الرئيس عبد الناصر ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ ويلحقه فى الرحيل البابا كيرلس ٩ مارس ١٩٧١، وينتقل مقر البابا البطريرك الى الكاتدرائية الجديدة بالعباسية، ويجرى فى نهرى الدولة والكنيسة مياه كثيرة.
بشكل متدرج بدأت هيئة الكاهن تتغير، اختفت الفراجية، وصار لون الروب أسوداً، وتم تعميم أمر بحتمية ارتداء العمامة حتى اثناء قيادة السيارة، وفارق التهذيب اللحى، واصبح من النادر ان تسند عظة القداس لغير الكاهن حتى لو كان مفتقرا لموهبة الوعظ، حتى زوجة الكاهن صار لقبها “تاسونى”، وارتبكت التراتبية الاكليروسية بعد ان صارت رتبة القمصية بلا صلاحيات كنتيجة طبيعية للتوسع فى رسامة الاساقفة العموم خاصة فى ايبارشية البابا (الإسكندرية والقاهرة)، فلا الكهنة الصغار يحتكمون للأب القمص، ولا الرعية ايضاً، وصارت القمصية تمنح للكاهن كترضية على غرار مكافأة نهاية الخدمة.
كانت بداية رسامة اسقف عام فى حبرية البابا كيرلس السادس، ١٩٦٢، باقتراح مقنن من القمص صليب سوريال، وكان اقتراح الاسماء من الدكتور حنا يوسف حنا.
والأسقف العام هو اسقف بدون ايبارشية، ويسند اليه مهام عامة فى معاونة البابا البطريرك، ويحسب بذلك معاوناً له، ولذلك لا يتطلب اختياره ورسامته موافقة مجمع الاساقفة، وجاء الإقتراح فى البداية كمخرج من موقف اباء المجمع الشيوخ الرافض لرسامة الرهبان المنتمين لمدارس الأحد اساقفة على ايبارشيات، توجساً وتخوفاً منهم بعد معركتهم التى امتدت لثلاث سنوات (١٩٥٦ – ١٩٥٩) فى الترشح والاستبعاد لكرسى البابوية، والتى حسمتها اللائحة الجديدة التى صدرت عام ١٩٥٧ وبسببها استبعدت كل اسماء الرهبان الشباب، لعدم استيفائهم شروطها المعدلة، السن ومدة الرهبنة.
كان الاسقف العام استثناء، فالقاعدة ان يكون الاسقف ناظراً على رعية ومقاماً على ايبارشية، وكان الأمر محدداً، فى رسامات البابا كيرلس للأساقغة العموم، فرسم اثنين من طاقم سكرتاريته اسقفين عامين، إذ اقام أحدهم اسقفاُ للتعليم (الأنبا شنودة)، والثانى للخدمات الإجتماعية، (الأنبا صموئيل)، وعندما رأى رسامة اسقف عام ثالث أقامه على البحث العلمى، (الأنبا غريغوريوس) ليحجم تمدد اسقف التعليم، بمشورة القمص صليب سوريال أيضاً.
وفى بدايات رسامات البابا شنودة التزم بان يكون للاسقف العام مهام محددة، إذ رسم الأنبا موسى أسقفاُ للشباب، لكنه فى تطور لاحق رسم رهط من الأساقفة العموم بعير مهام محددة، وهو ما سار عليه البابا تواضروس الثاني، الذى اضاف اسناد ادارة الايبارشية الشاغرة أو التى يرحل اسقفها، الى احد الاساقفة العموم وقيل فى تفسير ذلك انه لا يحق للبابا نقل أسقف الايبارشية من ايبارشيته، فيما يحق له نقل الاسقف العام الموكل اليه مهمة الاشراف على ايبارشية.
ما لم يتم تجليسه عليها.اللافت فى سياق أخر الإشادة ببتولية بعض الكهنة المتزوجون، فى تكريس لأفضلية البتولية على الزواج، بينما تبقى البتولبة اختياراً والزواج سراً مقدساً !! ، والأنكى انتشار اتفاق المتزوجون حديثاً على قضاء الأسبوع الأول من حياتهم الجديدة فى الدير، هو فى احد اديرة الرجال وهى فى أحد اديرة البنات، ثم يسألونك على فشل ابناء وبنات الكنيسة فى حياتهم الزوجية وتفشى حالات الطلاق بين الشباب خاصة الخدام والخادمات.
كان هناك اصرار غريب على رهبنة المجال الاجتماعى القبطى بتسلل مظاهر الرهبنة الى تفاصيل يومنا، فى غير ادراك اننا نزرع نبات فى غير ارضه ومناخه، فعقمت الأرض وجفت حتى بذور النبات … و تصحرت الكنيسة. ومازال للمشاهدات بقية.