عندما نفتش في كتب التاريخ وما تركه لنا الرحالة والمؤرخون عن حال القصير قبل موسم الحج من كل عام نجد اننا امام مدينة عامرة وارض زاخرة بالبشر من كل الاجناس والاعراق والألوان إلا ان ما يميز هذا التنوع البشري هو زيادة عدد المغاربة بشكل كبير وملحوظ وهذا يتضح اليوم من خلال ما تركوه من آثار شاهده على قوة حضورهم مثل ضريح الشيخ الفاسي والبدوي والشاذلي حتى في اللهجة ولغة أهل القصير
فالكلمة التي تسمعها باستمرار من افواه القيصرية (اخويا)
فتجدها تتكرر في اغلب عباراتهم هي في الأساس مأخوذة من المغاربة الذين يكررون
في عباراتهم كلمة (خويا) بحذف الألف الأولي من الكلمة
اضافة الي أن هناك بعض العائلات ذات الأصول المغاربية تعيش بالمدينة
حتى يومنا هذا وذلك ما نستدل عليه من وثائق محكمة القصير القديمة .
ويحكي كثير من المؤرخين عن تفضيل المغاربة لميناء القصير للذهاب منه إلى
الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج خاصة الفقراء منهم والبسطاء
وعندما تبحث عن السر في ذلك تجد أسبابا عديدة أهمها الخيرية
التي كان يتمتع بها أهل المدينة من تجار وعرب وملاحين
وأصحاب سفن كذلك نجاح تجار المغاربة
في انشاء عدد من الزوايا والاربطة التي كانت تستقبل اهل المغرب
وتوفر لهم إقامة مجانية وطعام مجاني يتكفل به هؤلاء التجار
وكبار مشايخ الطرق الصوفية التي نجح المغاربة في انتشارها في المدينة
ابرزها الطريقة الشاذلية والقادرية ثم الطريقة السمانية نسبة للشيخ السمان الذي تحمل مساجد المدينة
اسمه كذلك ان هناك من أهل السفن
من يملك سفينتين فيجعل سفينة منهم لنقل الحجاج لمكة بشكل مجاني واخري في التجارة
توفر الأموال التي تساعده في الانفاق علي السفينة الأخرى التي وهبها لله ولنقل الحجاج
وابرز هؤلاء الأمير الهندي الثري نظام الدين الذي حكى لنا حكايته القنصل الفرنسي في بداية القرن التاسع عشر من خلال مذكراته ولعل هذه الخيرية تجدها موجودة في أبناء القصير حتى ذلك اليوم وابرز مثال على ذلك تطوع عدد كبير اليوم من شباب المدينة في حفر القبور للموتى وتكفينهم والقيام بالغسل بشكل مجاني تماما غنيا كان أو فقير .
ازدهر المكان بدرجة غير عادية؛ كانت جميع التجارة بين مصر وشبه الجزيرة العربية تقريبًا تمر عبر القصير، وفي كل عام كان هناك حوالي 30،000 حاج (12،000 يذهبون إلى مكة المكرمة، 18،000 يعودون)
ومن بينهم العديد من الرجال من الطبقة العليا والثروة من العالم الإسلامي بأكمله.
كانت هناك العديد من الفنادق المخصصة لاستقبال هؤلاء الحجاج تسمي (احواش)، وكان العدد الأكبر منهم يقوم بعمل خيام في العراء التي كانت تنتشر في جميع أنحاء المدينة فكان حجم المدينة في وجود هذه الخيام أكبر بكثير من حجمها الطبيعي وكانت تستمر هذه الخيام بمن فيها أحيانا قرابة التسعة أشهر من العام.
كانت حركة المرور مزدحمة بهذا العدد الكبير من الناس، الذين يغادرون القصير بالسفن أو بالجمال إلى وادي النيل حيث كان عدة مئات وآلافا من الجمال تصل من وادي النيل كل يوم
وكان مئة أو اثنين آخرين كانوا يجلبون الماء من الجبال ويقيمون في الحي القديم، كانت مستوطنة العبابدة خارج البلدة يبلغ عدد سكانها حوالي 200 شخص، من هذه الصورة يمكن تصور مدى ازدحام مشهد المدينة وضواحيها.
وينص القانون أيضاً على أنشطة للترفيه والتسلية؛ هناك وتدخل إلى الميناء مئات السفن كل شهر لنقل المعونات من الحبوب إلى الحجاز، ولأغراض حربية معينة، امتلكت الحكومة المصرية نفسها سبع سفن كبيرة ذات صواري أوروبية الصنع تتراوح سعتها بين 4000 و7000 عربي
مع فباطنة وضباط أوروبيين، فضلا عن إحدى عشرة سفينة عربية الصنع ذات صواري واحدة؛ ولكن حتى هذه لم تكن كافية، وكان يتعين استكمالها دائما بالعديد من السفن التي يستأجرها أشخاص عاديون.
من كتاب (القصير في عيون الرحالة والمورخين)
لـ (طه حسين الجوهري)