الأحد , ديسمبر 22 2024
شايب البنات

شايب البنات !

بينما أقلب في خريطة الصحراء الشرقية أمس توقفت عند جبل “الشايب” أحد أعلى جبال مصر. إذ يبلغ ارتفاع هذا الجبل 2184 مترا ويقع فيما بين الغردقة شرقا وقنا غربا. قراءة اسم “الشايب” تحمل عندي ذكرى أستاذين جليلين راحلين.

الأول هو محمد صبري محسوب أستاذنا في جامعة القاهرة الذي كان يجمع بين العمق العلمي وخفة الروح، وقد ذكر لنا ونحن بعد في أولى سنوات الدراسة الجامعية أن الاسم الكامل للجبل هو “شايب البنات” وأن الروايات تذهب إلى أن شيخا كبيرا من قبائل الصحراء كان يعيش في هذه المنطقة مع بناته من فتيات جميلات فاتنات فعرف الجبل باسمه.

أما الأستاذ الثاني فكان شاعرا أديبا جمع إلى جانب عمقه الجغرافي رسالة ثقافية إنسانية وهو أحمد عبد العال

( الأستاذ بجامعة الفيوم) الذي كتب مقالا في الأهرام قبل ثلاثة عقود يربط فيه بين الجغرافيا والأغاني والأشعار. وقد وقع اختياره في هذا المقال على رائعة محمود حسن إسماعيل (1910-1977) التي شدى بها عبد الوهاب في “النهر الخالد”.

في واحد من أبيات هذه القصيدة يقول الشاعر واصفا نهر النيل “شابت على أرضه الليالي..وضيعت عمرها الجبال” والحقيقة أن الشاعر وقف على حقيقة جيولوجية أكيدة وهي قدم أعمار الصخور التي تحيط بنهر النيل في رحلته الطويلة التي اخترق خلالها أقدم صخور ليس فقط في حوض النيل بل أقدم صخور في القشرة الأرضية.

صحيح أن جبل الشايب لا يقدم اليوم أية مياه لنهر النيل منذ أن حل الجفاف على بلادنا قبل آلاف السنين وأصبح النهر رهينا لأمطار الحبشة، إلا أن الأصل الجيولوجي والمناخ القديم لم يكن على هذا النحو.

فقد كان الشايب ومعه قمم جبلية عديدة تفيض مياها إلى وادي قنا بكميات مياه ضخمة، وكان وادي قنا واديا سابقا على نهر النيل يتدفق في الصحراء الشرقية واصلا إلى ما نسميه اليوم الصحراء الغربية.

وحين اكتمل نمو النيل في النوبة واخترق أرض مصر لم يكن أمامه إلا أن “يأسر” وادي قنا ويضم مياهه إليه ويقسم أرضنا إلى شطرين غير متساويين شرقي وغربي نسميهما اليوم “الصحراء الشرقية” و”الصحراء الغربية”.

في قصيدة محمود حسن إسماعيل يتألق عبد الوهاب معبرا عن رحلة نهر النيل في كل من المكان بين الجبال والصحاري وفي الزمان والليالي.

وبين المكان والزمان الناس من حول النيل بين نشوة السكارى وفرحة العذارى.

أما النيل نفسه فيمنح الخلد للزمان !أحد أشكال عبقرية هذه القصيدة أنها تصور نهر النيل إنسانا يعاني الظمأ بينما الكأس في يديه.

يقول شاعرنا الكبير:

مسافر زاده الخيال والسحر والعطر والظلال ظمآن والكأس في يديه والحب والفن والجمال شابت على أرضه الليالي وضيعت عمرها الجبال ولم يزل ينشد الديارا ويسأل الليل والنهارا والناس في حبه سكارى هاموا على شطه الرحيب آهٍ علي سرك الرهيب وموجك التائه الغريب يا نيل يا ساحر الغيوب يا واهب الخلد للزمان يا ساقي الحب والأغاني هات اسقني ودعني أهيم كالطير في الجنان يا ليتني موجة فأحكي إلى لياليك ما شجاني وأغتدي للرياح جارا واسكب النور للحيارى فإن كواني الهوى وطارا كانت رياح الدجى نصيبي آهٍ على سرك الرهيب وموجك التائه الغريب يا نيل يا ساحر الغيوب سمعت في شطك الجميل ما قالت الريح للنخيل يسبح الطير أم يغني ويشرح الحب للخميل وأغصنٌ تلك أم صبايا شربن من خمره الأصيل وزورق بالحنين سارا أم هذه فرحة العذارى تجري وتجري هواك نارا حملتُ من سحرها نصيبي آهٍ علي سرك الرهيب وموجك التائه الغريب يا نيل يا ساحر الغيوب .

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.