مثل أشياء عديدة في مصر المحروسة، من الحجر إلى البشر، فقد كثيرون قيمتهم في العقود الأربعة الماضية.
في زمنها الذهبي، كانت ورقة نصف الجنية تحمل للبسطاء من الناس في بلادنا صفات ذلك الرجل المتزن الواقف بملامح دقيقة شابة قابضا على مقاليد الأمور بصولجان القرار الذي يضمه إلى صدره.
لا توجد أية معلومة على الورقة عن هذا الشاب الرشيق الحاسم دقيق الملامح، قبل ثلاثة أو أربعة عقود لم يكن أحد يعرف عنه شيئا، ربما باستثناء مصمم العملة ورئيس البنك المركزي وحفنة من علماء الآثار.
مع انتشار المعرفة اليوم، صرنا نعرف أن الصورة لتمثال فريد عجيب لا نظير له في الأراضي المصرية وهو للملك “رمسيس الثاني” في مرحلة من شبابه، يضع على رأسه خوذة للحرب بدلا من تاج الملكية المدني، ويمسك صولجانا يؤدي عدة وظائف منها الاستعداد للضرب بيد من حديد للمخالفين والأعداء.
تخفي ورقة نصف الجنية بقية جسم التمثال الذي يعد أعجوبة من أعاجيب الفن المصري القديم، ففيه يجلس رمسيس الثاني على كرس الحكم بهيئة بالغة الاتقان وتجليات فنية عجيبة.
الصخر المنحوت فيه التمثال متفرد أيضا، تتميز به أرض مصر عن كثير من بلاد العالم، يسميه الجيولوجيون “الجرانوديورايت” وهي كلمة مؤلفة من شقين يجمع فيها الصخر بعض صفات الـ”جرانيت” مع بعض من صفات الـ”ديورايت”.
رمسيس الثاني الذي حكم بلاد النيل قبل 3200 سنة اختار أحد أقدم صخور القشرة الأرضية في مصر، صحيح أن الفنانين في عهده كانوا يعرفون أن الصخر قديم جدا لكنهم قطعا لم يتخيلوا ما يقوله علماء التأريخ الجيولوجي اليوم من أن متوسط عمر تكوين هذا الصخر في أرض مصر يقرب من 800 مليون سنة !
بعد أكثر من ألف سنة من عهد رمسيس الثاني، حينما احتل الرومان مصر وضعوا أيديهم على ما هو أغلى من الذهب، كان صخر الجرانيت الديورايتي فريدا لا نظير له في كل مستعمرات روما في أوروبا وآسيا، ومن ثم اتخذوه مصدرا مثاليا لصناعة أعمدة القصور الملكية في روما، وجند الرومان المصريين لقطع صخر الجرانودايوريت وسحبه من عمق صحراء مصر الشرقية إلى قنا على النيل ، ومن قنا عبر النهر إلى الإسكندرية ومن الأخيرة إلى روما حيث توجد إلى اليوم أزهى وأجمل الساحات والقصور من ذلك العهد.
من بين المناجم التي خلبت خيال أباطرة روما جبل شهير في صحراء مصر الشرقية إلى الغرب من ميناء سفاجا اليوم اهتم به إمبراطور روماني كبير هو الإمبراطور “كلاوديوس” الذي أطلق اسمه على الجبل الذي يضم أنواعا من الجرانيت ومن بينها الجرانوديورايت فأسماه “مونس كلاوديانوس” أي “جبل الإمبراطور كلاوديوس” الذي ما زال اسمه على الخرائط المصرية إلى يومنا هذا.
ومن عجائب هذا الصخر الجرانيتي الديورايتي أيضا انه هو نفسه الذي قطع منه حجر رشيد الذي كان مفتاح فك رموز اللغة المصرية القديمة.
ولأن بلدنا العظيم وطن المفارقات والمفاجآت والتناقضات، فإنك إذا بحثت عن تمثال رمسيس الثاني الذي تراه هنا على ورقة نصف الجنيه فستجده في “المتحف المصري”.
لكن حذار…قد لا تنتبه إلى الخدعة لأن المتحف المصري المقصود هو المتحف المصري في تورين بإيطاليا الذي أسميه على سبيل السخرية “مغارة علي بابا الذهبية” ففيه آلاف القطع المصرية المنهوبة والمسروقة التي وجدت طريقها إلى إيطاليا منذ عهد محمد علي باشا الذي لم يكن يعط أية اهتمام للآثار ولا يعتني بها بل سمح لـ “برناردينو دروفيتي”القنصل الفرنسي ذي الأصل الإيطالي والمحترف الكبير في نهب الآثار بنقل آلاف القطع التي تزين ثلاثة متاحف في أوروبا الآن، أكبرها وأضخمها وأعظمها “المتحف المصري” في تورين.
حين تم تصميم ورقة نصف الجنية وكان لها هيبتها كانت تعويضا على ما يبدو عن غياب التمثال الأصلي في تورين في إيطاليا.
الآن غاب الاثنان: التمثال الحقيقي، ونفحة من صورته ….أو لمحة من هيئته.
منقول من صفحة الدكتور عاطف معتمد