الأحد , ديسمبر 22 2024
الدكتور عاطف معتمد

بوابة البحر الأسود !

في عام 1932 كتب أحمد شوقي مسرحية شعرية عنوانها “علي بك الكبير” راسما مشهدا ملحميا من عام 1773 لذلك الطموح المغامر لمحاولة القائد المملوكي الشهير الاستقلال بمصر عن سلطة الدولة العثمانية، تلك المحاولة التي انتهت بالغدر به وبسقوطه صريعا على يد أحد قادته الصغار الطامعين في عرش مصر.

في مشهد من هذه المسرحية الشعرية، وخلال لجوء علي بك الكبير إلى بلاد الشام لتنظيم الاستقرار في الدولة المصرية التي يرأسها يتلقى دعوة من قائد الأسطول الروسي بالتعاون مع بلاد القياصرة لمنح مصر الأسلحة والعتاد التي تضمن استقلال بلاد النيل عن قبضة الدولة العثمانية.

هل يمكن اعتبار ما قاله أمير الشعراء حقيقة تاريخية؟ هل التقى فعلا علي بك الكبير بقائد الأسطول الروسي القادم من البحر الأسود والمرابط ببارجته الحربية أمام بلاد الشام؟

إذا راجعنا المصادر الروسية الحديثة سنجد ثبتا للواقعة التي تشير إلى عرض الإمبراطورة الروسية “يكاترينا العظمى” دعم انفلات مصر من قبضة الدولة العثمانية وذلك خلال فترة توليها عرش روسيا فيما بين 1762 و 1796.
تقول المصادر الروسية إن الإمبراطورة عرضت الدعم الكامل للقائد المملوكي المصري ليس حبا في بلاد النيل ولا تعاطفا مع المماليك بل لتوجيه ضربة موجعة إلى الدولة العثمانية لكي تضعف شوكتها بما يصب في النهاية في صالح روسيا.

وفقا لأمير الشعراء فإن قائد الأسطول الروسي ظهر في سواحل بلاد الشام وبإمرته بوارج مثل الجُزرْ تقف قبالة عكا والتقي “علي بك” في قصر من قصور بلاد الشام.

مضى الربان الروسى يمدح بطولة على بك ويتودد إليه مؤكدا أنهما جنديان معا، وبطلان معا، وتجمعهما رفقة السلاح فأنشد قائلا:

نحن جاران يا أمير ولكن ** نحنُ في منزلين يختلفان
أنتَ كالليث رابضًا في الصحاري ** وأنا الحوت في العباب مكاني

وكأن شوقي يقول ما كتبناه على هذه الصفحة قبل ثلاثة أيام عن كل من إمبراطورية “البر” وإمبراطورية “البحر” وهي واحدة من أسس الصراع الدولي ، وكأن مقولة القائد الروسي في مسرحية شوقي تذكرنا بأن تحالف قوة البر وقوة البحر يضمن تفوق أي إمبراطورية عالمية.

كما لو أن مصر وروسيا بوسعهما تكوين قوة لا يستهان بها في العالم.
رغم أن علي بك الكبير كان في موضع شديد الحرج وكانت يد “الحوت” الروسي بالغة الأهمية لإنقاذ حاكم مصر الليث الصحراوي الجريح إلا أن على بك – وفقا لمسرحية شوقي – رفض الاستعانة بروسيا في استعادة عرشه مفضلا الاعتماد على أسلحة ورجال وعتاد من عكا.


يتعجب أمير البحر الروسي من خطة علي بك وينبهه إلى فارق مستوى التسليح بين أمير عكا والأسطول الروسي قائلا:

لا ترومَنَّ بالعصَا مُلْكَ مِصْر** واطْلب المُلْكَ بالحسام اليماني
كيفَ نبغي سريرَ مِصْرَ بشيخٍ ** بدوي بصارمٍ وحصَان

حجة الأدميرال الروسي قوية لا تحتاج إلى معارضة لكن على بك الكبير – وفقا لأمير الشعراء– يرفض دخول مصر على ظهر بارجة حربية روسية فينشد قائلا:

رباه ماذا يقول المسلمون غدًا ** إن خنت قومي وأعمامي وأخوالي
يُقالُ في مشرق الدنيا ومغربها ** فعلتُ فعْلَة نذل وابن أنذال
بُعْدًا وسُحقًا لعلياءِ الأمور ** إذا لم ألتمْسها بخُلق فاضل عالِ

هذه رواية شوقي عن موقف علي بك النبيل الذي يرفض خيانة أشقاء الدين والعقيدة. ويؤكد فيها على أن شرف الغاية لا بد أن ترافقه شرف الوسيلة.
لكن هل كان ذلك حقيقة؟ هل كان موقف علي بك مندفعا بالمبدأ الأخلاقي وحده؟
الحقيقة أن المصادر الروسية المتاحة لدينا لم تعط هذا المشهد تفاصيل كثيرة وقالت إن الترتيب الذي تم مع علي بك الكبير كاد يحقق نجاحا باهرا لولا فشل التفاوض لأسباب مفاجئة رغم أن الأمور كانت تسير بنجاح للأسطول الروسي الذي جاء إلى عكا قاصدا مصر قادما من البحر الأسود ومن شبه جزيرة القرم.

ما الذي تمثله شبه جزيرة القرم للأسطول البحري الروسي؟ وهل يمكن تعويض خسارتها بعد كل تلك القرون؟
لعلنا نتحدث عن ذلك في مقال مقبل

الدكتور عاطف معتمد

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.