د.ماجد عزت إسرائيل
اليوم الأربعاء الموافق (23 فبراير 2022م) تحل علينا الذكرى الثالثة عشرة لرحيل أمي الحبيبة الطيبة (1931-2009م)، ففي كل عام من شهر فبرايـر تحل ذكـراها العطرة،حيث تنيحت (توفيت) في(23 فبراير2009م)، فى ليلة بدأ الصوم المقدس.
واليوم تحل الذكرى قبل أيام وجيزة من بدأ الصوم المقدس ويرجع هذا الاختلاف في التوقيت لطبيعة التقويم القبطي الذي تعتمد عليه كنيستنا القبطية الأرثوذكسية في تحديد الأصوام والأعياد والمناسبات والاحتفالات.
وعرف عن أمي الحبيبة الطيبة حبها للحق وقوله والصدق فهي الأرملة التي حملت راية الجاهد في تربية أولادها بعد رحيل والدي في نوفمبر 1972م. وهي التي وجدت في أن أثبات الحق لايحتاج لمستندات أو وثائق مكتوبة على الرغم من إيمانها بقيمة هذه الأوراق. وإنما كانت رؤيتها للحق أنه ينبع من الضمير الإنساني وهو الميراث الأخلاقي الذي تعلمته داخل الكنيسة في محيط الأسرة.
وحتى لو كان هذا الحق ليس بدليل مكتوب. لانها كانت ترى في السيد المسيح الذي حاول الفريسيين والهيرودسيين اصطياده بكلمة نموذجًأ للصدق والحق ولذلك وجب اتباعه.
كما ورد بالكتاب المقدس قائلاً: «ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْمًا مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلَا تُبَالِي بِأَحَدٍ، لِأَنَّكَ لَا تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللّهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لَا؟ نُعْطِي أَمْ لَا نُعْطِي؟« فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: »لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ اِيتُونِي بِدِينَارٍ لِأَنْظُرَهُ«. فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: »لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟« فَقَالُوا لَهُ: »لِقَيْصَرَ«. فَأَجَابَ يَسُوعُ: »أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ«. فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ« (إنجيل مرقس 12:12-17).
وحقًا عرف عن أمي الحبيبة الطيبة قوة شخصيتها في قول الحق وتنفيذه حتى ذاع صيتها في المنطقة.
فهي التي ذهبت لقسم الشرطة عندما صدرت أوامر بغلق الكنيسة لخدمة أبناء المنطقة، ودار حوار بينها وبين مأمور القسم في أوائل تسعينات القرن العشرين وقالت له«هذا مكان عبادة لتعليم الأولاد لقول الحق وعدم الكذب وتربيتهم حتى لايكونوا لصوص ومجرمين فنحن فرع من قسم الشرطه هدفه في المقام الأول الصلاة والتعليم والإصلاح…» وانتهى الأمر بقرار إعادة فتح الكنيسة لممارسة للصلاة. وأيضًا خلال فترة أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين كانت تذهب إلى بعض المؤسسات الدينية مثل الأديرة والكنائس بلا خوف من أبناء الشر.
ومما لا شك فيه علمت أمي الحبيبة الطيبة أولادها قول الحق من خلال مخافة الله. فكانت تقول لهم الله يرى ويسمع ويراقب كل شيء، والله موجود يسمع ويرى ويراقب ويقول لكل منكم «أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَمَحَبَّتَكَ وَخِدْمَتَكَ وَإِيمَانَكَ وَصَبْرَكَ….. » (رؤ 2: 19).
وكانت تحذرهم من الأفعال الشريرة وعمل الأفعال الخيّرة. فالله يقول لراعي كنيسة أفسس:«أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ وَصَبْرَكَ. وَتَعِبْتَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي وَلَمْ تَكِلَّ» (سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي 2: 2، 3).
لا تظنوا يا أحبائي أنكم تستطيعوا أن تخفوا شيئاً عن الله. وإلا تكون ممن لا يؤمنون بوجود الله.
«لِذلِكَ كُلُّ مَا قُلْتُمُوهُ فِي الظُّلْمَةِ يُسْمَعُ فِي النُّورِ، وَمَا كَلَّمْتُمْ بِهِ الأُذْنَ فِي الْمَخَادِعِ يُنَادَى بِهِ عَلَى السُّطُوحِ. » (لو 12: 3). لان كل شىء مكشوف ومعلن أمام الله. فمن استطاعت الأم الطيبة تعلم الحق وقوله للسير بين أبناء النور.
وفي ذات السياق كانت أمي الحبيبة الطيبة تعلم أولادها البعد عن أعمال الظلمة فكنت تذكرهم بما ورد بالكتاب المقدس قائلاً: «وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا». (أف 5: 11).
الأم الطيبة كثيرًا ما كانت تقول لأولادها «لا تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ..» لأن للأسف كثيرون يشتركون في الجوهر لكنهم يتهربون من المظهر كثيرون يشتركون في المؤامرة ويختفون وقت المظاهرة، والحقيقة أنها شركة على كل حال، والمتآمر شرّ من المنفّذ.
وهذا ما نص عليه الكتاب المقدس قائلاً:«غَيْرَ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ حَسَنًا إِذِ اشْتَرَكْتُمْ فِي ضِيقَتِي». (في 4: 14). لايحق لأولاد المسيح والكنيسة أن يشتركوا في أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غير المثمرة بل التمسك بتعاليم المسيح الذي نأكل لحمه ونشرب دمه في كل قداس «لأَنَّنَا قَدْ صِرْنَا شُرَكَاءَ الْمَسِيحِ، …» (عب 3: 14).
وأيَضا “فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، ” (عب 2: 14).
وهكذا لا تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ.
وحقًا أمي الحبيبة الطيبة علمت أولادها عدم المشاركة في أعمال الظلمة أو فعل الشر. وإنما مقاومته« ..بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا» لاتترك الظلمة والظالم يمارس أعماله لانك لو تركته سوف تصبح شريك لأفعاله الشريرة .
ليس واجب المسيحي مقصوراً على نيل النور والتمتع به، بل عليه أن ينشر النور- «مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ». (يو 12: 36)- لكونه هو نوراً لأن النور من طبعه أن ينتشر، فلا يكفيه أن لا يشترك في الشر، بل عليه أن يوبخه، بأن يكشف القناع عنه، فيبرزه في حقيقته،مجرداً إياه عن ثوب الرياء، ورداء الادعاء.
لا بروح التشفي والانتقام، بل بروح الإصلاح،لأن التستر على الجريمة،هو اشتراك في الجريمة عينها. «وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ. » (مت 18: 15). وأيضًا «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ.
وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللهِ مَعْمُولَةٌ». (يو 3: 20-21). وكذلك «وَلكِنْ إِنْ كَانَ الْجَمِيعُ يَتَنَبَّأُونَ، فَدَخَلَ أَحَدٌ غَيْرُ مُؤْمِنٍ أَوْ عَامِّيٌّ، فَإِنَّهُ يُوَبَّخُ مِنَ الْجَمِيعِ. يُحْكَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَمِيعِ. » (1 كو 14: 24).
ونؤكد هنا على أن أمي الحبيبة الطيبة علمت جمع أبنائها وأحفادها حبهم ليسوع وللكنيسة لأنها مصدر الحنان والأمان لكل إنسان، وأيضًا علمتهم قول الحق والتصدى لأصحاب «أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ» ونصرة المظلوم.
بالحق أقول رحلت أمي الحبيبة الطيبة في يوم الأحد الموافق( 23 فبراير 2009م)، وتركت لنا ذكريات ومعاني جميلة،مثل الصدق والحق ومقاومة الظلمة ومساعدة المظلوم.. وتعزيات وومضات من الحياة اليومية لها مازلت تعيش في داخلنا،لا يمكن أن تمحو من الذاكرة… نياحاً لروحك الطاهرة… يا أمي الحبيبة الطيبة!!!
كل عام وأنتم طيبين وبكل خير بمناسبة الصوم المقدس.