بقلم .. نانا جاورجيوس .
بظهور الدولة الإسلامية الداعشية، تطفو على السطح عدة تساؤلات، هل داعش دولة خلافة حقيقية سيتم الإعتراف بها لأنها أصبحت واقع نعيشه، أم تنظيم إجرامي فما أسبابه و متى سينتهي؟ وهل مقاومته ستنتهي سريعاً، أم ستمتد لأربعين سنة كحرب داحس والغبراء؟!
و أين مواقف علماء الأزهر مما يحدث من داعش و بوكو حرام والقاعدة وحماس وجبهة النصرة وأنصار بيت المقدس إلى آخر القائمة السوداء التي تتفشى وتتوغل وتتسع مساحاتها؟!. و من فتاوى داعشية تنتشر كالسرطان لتعربد بعقول أطفالنا وشبابنا لإستباحة دماء و أعراض و ممتلكات غير المسلمين؟! و لماذا لم يصدر الأزهر فتاوى تصحيحية لا تشرِّع للذبح المقدس لمجابهة فكر التكفير وفقه التكريه والمستمد أغلبه من فقه ابن تيمية، و ثقافة العنعنة المملوئة إرهاب و تقطر دماء كالتي تعتمد عليها السلفية الوهابية ؟!
فأمهات الكتب تعج منذ مئات السنين بالقتل المقدس و بمناهج فاشية تُدرَّس وتتفنن في كيفية التنكيل بضحاياها و التي أنجزتها داعش وأخرجتها من الكتب و ادخلتها حيِّز التنفيد! فمتى يغير الأزهر خطابه الديني ليحض أتباعه على روح المحبة والتسامح ، فالدين للتعبد وليس للإقتتال به لفرضه على الأخر؟!
للأسف رغم أنه لا حل بديل للإصلاح، فهم يعلمون كل هذا وأكثر ولكن مشكلتهم الوحيدة أن أكثريتهم دواعش يؤمنون بتطويب عقيدة الجهاد التكفيري التي تملأ أمهات الكتب ليخرج من عبائتها آلاف الدواعش! فيرفض حراس الإله ومتشدقي الوسطية و دواعشها الإصلاح الديني لأن فكرهم يعتمد أساساً على تقديس هذه المنهج! كما هاجموا شيخ التحرير عبدالله نصر حين صرح بدموية التعاليم التي يتبناها فكر الأزهر، لهذا رفضت قياداته إعطاء تصريحات لوسائل الإعلام كما حدث مع قناة النيل الثقافية في المناظرة المفترة بينهم وبين المستشار والمفكر والباحث الإسلامي أحمد عبده ماهر، فأغلقوا هواتفهم بناء على تعليمات شيخ الأزهر كما ذكر مذيع البرنامج! فيا حضرات الشيوخ الأفاضل اخرجوا داعش من المقدس و نقوا الدموية من المناهج التعليمية المسمومة التي لا تفرخ عقول آدمية سوية، فلسنا بحاجة لتنديدكم وشجبكم بتصريحاتٍ في الهواء، فما يحدث من إقتتال مقدس و ممنهج لا يصلح معه التنديد بكلمات تذهب أدراج الريح!
فعندما تتغني «وسطية» بالإعتدال فهي تعترف صراحة أو ضمنياً بأن هناك ما هو ليس وسطياً ! وأن أصولية معلوم الدين و راديكالية ثوابته ليست وسطية ولا معتدلة! لأنها تعتمد على فكرة تطويب الجهاد التكفيري بالمقدس و فقه العنف المترسخ بالذهنية المصرية والعربية عبر مئات السنين، و رفض الوسطية للأصولية الدينية لا ينفي أن الأصولية هي عقيدة ثوابت الدين، لتظل «وسطية» مناقضة لنفسها لا تستطيع فرض وسطيتها ومبادئها المزعومة، فهناك أصولية أقوى منها تعوقها؛ لتقبع «وسطية» منقسمة على ذاتها؛ منافقة من حولها؛ تدور في حلقاتها المفرغة. لهذا يظل حراس العقيدة يختلفوا ويختلفوا إلا على شيئٍ واحد إتفقوا عليه وهو ألا يتفقوا أبداً! لتظل «وسطية» تردد أن هذا ليس من الدين وذاك لا يمثل الدين؛ لتغط الضمائر المشوشة في سبات عميق! فالواقع هو ما يحكمنا ولكل عصرٍ ما يحكمه من فكر ديناميكي متطور مع حاضرنا، لا لنقف متجمدين نجتر فكر القرون الغبراء ونعيش في جلبابها المتهرئ و المملوء بالرقع التي تعرى آدميتنا ! فإستحالة أن يختلط الماء بالزيت لتلتئم الهوة السحيقة بين الكائن الداعشي بجيناته وتركيبته الفكرية وغرائزه الوحشية، وبين فكر التحضر الإنساني الذي يرفض أن يجتر عقليته الغث و البالي من عصور الظلام! أنه صراع الوجود، والحياة لا ترجع أبداً بظهرها للخلف لنكفِّنها في ثوب الرجعية و التخلف.
فأنتِ أيتها الوسطية بسلبيتكِ تكرسين للقتل المقدس وشرعنة و تقديس ثقافة جزْ الرؤوس و ضرب الأعناق، و تروجين لأصولية جائتنا بالذبح منذ داحس و الغبراء، فقط ترين الوقت غير مناسباً للتطبيق، وليس ما يمنع التطبيق عند اللزوم!فإن لم تستطع تأييد داعش والقاعدة وحماس وبوكو حرام فعلى الأقل انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ولا تدينه، و إن لم تستطع أن تلبي نفير الجهاد المقدس فعلى الأقل إنتظر إلى أن تواتيك فرصة تُغريك على حمل سيفه! وإن لم تستطع أن تقف في وجه أصحاب الرايات السوداء لدولة الخلافة الوليدة، فعلى الأقل نافقهم و كُلْ معهم عيش وملح كي تدرأ شرر سيوفهم المتطاير ولا تعارض حلم الخلافة المرفرف فوق رايات الموت السوداء فإما الإسلام أو الجزية أو قتل رحيم مقدس لإغتنام النساء!.
لتتسع شيئاً فشيئاً بقعة الزيت وتنشع على المتبقي من العقول غير المصابة بالفيروس ليشمل الوباء المنطقة بأسرها، إنها الصحوة المقدسة و مع داعش مش حتقدر تغمض عنيك! فالفرق بين الوسطية والداعشية هي درجة التطبيق وبدخول المنهجي حيِّز التنفيذ تصير الوسطية الأب الشرعي والبيئة الخصبة الحاضنة للأصولية والراعي الرسمي لها, تكرسين للتطرف وتفرخين إرهابه عندما تخشين وترفضين الإصلاح خوفاً على الكراسي والمراكز، لنستيقظ يومياً على منظر مسلسل الرعب الدموي، فقط لنردد« هذا ليس من الدين»، رغم ما تبثينه بأعلى صوتكِ بالمسامع وفي القنوات وفوق المنابر ومعشش بمناهجكِ الهتلرية، فكر يرتع في عقول أولادنا أناء الليل و أطراف النهار.
والرفض والتنديد وحدهما لا يكفوا لدرء دماء ضحاياكِ، فغاية ما في الأمر، ما يعتبره الداعشي «فرض عين» تعتبرينه « فرض كفاية»!
فعفواً وسطية أنتِ لا تملكي أن تمثلين الدين، فقط تجلسين بصفوف المتفرجين، تصفقين ضد شعوب العهدة العمرية فتنتهكين آدميتهم وحُرماتهم على قدم وساق بإسم ذمِّيتكِ، تساعدين بنهب بيوتهم و ترهيبهم و تهجيرهم أو إبتزازهم بخطف ممنهج وإلا قتلهم، فأموال النصارى وعِرضهم حلال و بما لا يخالف شرع الله! تجالسين الدواعش بمائدة طعامكِ بعد أن فرغت البلاد من أهلها المسيحيين والأزيديين والأكراد وعششت مطرحهم الغربان.
تهتفين نصرة وتهليلاً وحمداً وتكبيراً و تستقبلي الدواعش إستقبال الأبطال الفاتحين، فالمسألة أصبحت مجرد توزيع أدوار، والخوف يولِّد النفاق والجُبن سيد الأخلاق، فالجميع على خط تماس واحد، بفكر وهدف واحد للقضاء على الصليبيين وإقامة دولة الخلافة، بمبايعة « الخلافة الخرسانية» لأمير المؤمنين.
بينما لم يشغلكِ قتل الأطفال و الرجال لإغتصاب نسائهم وبيعهن لتجار الجنة بأسواق النخاسة، فليس المهم عندكِ من الجاني فالدواعش منا وعلينا، المهم أن المجني عليه برئ متى تثبت ديانته، والصمت علامة الرضا ! ما يهمكِ هو الدفاع عن جناب الشجاع الأقرع و محاربة الملحدين واللادينيين والمصلحين الذين كفروا بوسطيتكِ فعيَّنتي عليهم جندرمة النوايا!
فالعقلية العربية التي سبق وخضعت لزمن الخلافة العباسية و لمجازر أندت جبين التاريخ هي ذاتها الخلافة التي تفرض نفسها الآن على الساحة من مذابح وتقطيع الرؤوس والأيدي والأرجل، إذن ما نحن فيه الآن هو ميلاد دولة الخلافة الجديدة، ومن يؤيد هذه الدولة الآن هم أنفسهم من سبق وساعدوا على إقامة مثيلتها العباسية، فالإسلام السياسي واحد في كل العصور ولم يمارس الدين منفصلاً عن السياسة في أي فترة وإن كان أحياناً يتخفى بثوب مدنية الدولة الحديثة.
فالمسألة مسألة وقت لا أكثر، فلا تستغربوا داعش فكلهم يؤيدون داعش ويرحبون به لأنه صار أمراً واقعياً و دخل حيِّز التنفيذ بخطىٍ حثيثة، فهو تنظيم تخطى المحلية للعالمية، وليس فكره من صنيعة الغرب كما تدَّعي«وسطية»، فقط يتحرك بإدارة إستخباراتية عالمية أستطاع من خلالها إختراق الحدود و فتح الدول على بعضها.
بتمويل نفطي خليجي. بالإضافة للتسليح الأمريكي للجيش الحر بسوريا والتسليح التركي لداعش، نستطيع أن نستنتج لماذا إله الدواعش لم يعطهم الأمر بمحاربة إسرائيل، كذلك لم يأمرهم بمحاربة تركيا ولا هدم ضريح سليمان شاه جد عثمان غازي مؤسس الدولة العثمانية وهو ضريح تركي يمثل المكان التركي الوحيد ذو السيادة التركية وبحراسة تركية داخل الأراضي السورية! داعش التي هدمت كل مزارات الأولياء و لا تعترف بحدود جغرافية وهدمت كل مقامات الأنبياء، توقفت عن هدم المزار التركي بسوريا، لماذا ؟!
وعندما يصوت مجلس الأمن بقطع المعونات وقطع التعامل التجاري مع داعش، فهو يعترف ضمنياً بدولتها الواقعة و أن حجم التبادل التجاري على نطاق اوسع مما نتخيله، في الوقت الذي يسلح فيه أوباما الجيش الإسلامي الحر بسوريا بحجة أن المعارضة تحارب على الجبهتين النظامية والداعشية. لتصير داعش الذريعة للتدخل الدولي لإضعاف المنطقة وتفكيكها.
لهذا فتحوا الحدود الدولية و تنقلوا بحرية وبسهولة دون مراقبة، فالحدود الجغرافية قد إنتهت وثيقتها ليحل محلها سايكس بيكو2، فلا تسأل عن جغرفيا الدول الآن حيث لا تستطيع أن تحدد متى وكيف ولا أن تتكهن إلى أي الإتجاهات سوف يتحرك المارد.
وما تحرك التحالف الدولي سوى غطاءاً إضافياً للدفع بدواعش لمزيد من إجتياح الحدود وفتح الدول وهدم الأنظمة الهشة.
و السؤال هل الموروث الديني يمكنه أن يمحي الموروث الثقافي والحضاري الذي تربى الإنسان عليه وتشبع بأجوائه ومظاهره، ليطفو الديني على السطح وتنشط جيناته الجهادية؟ وهل العلماني الوسطي يمكنه أن يتحول لكائن داعشي بلا أدني مقدمات؟! لو نظرنا للأجانب الذين يحاربون بصفوف داعش سنجد أن التونسيين يحتلون المرتبة الأولى بين صفوفهم، تونس التي هي أكثر شعوب المنطقة إنفتاحاً على الحضارات و الثقافة الأوربية وتمتعت في ظل الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن على بزخم ثقافي و تنويري لم تنله أي شعوب المنطقة، بالإضافة للإسلاميين الأجانب الذين قَدِموا من دولهم الأوربية التي ولدوا وتربوا فيها على أحدث أساليب المعيشة حيث الثقافة الأوربية البعيدة عن العنف بل عن التدين، بل و كونوا بؤر داعشية داخل أستراليا ودول أوروبا نفسها والتي يعيشون فيها ويأكلون من خيرات من يصفونهم بالصلبيين! فثوب التحضر بمقوماته الثقافية لم يجعلهم يتوبوا ويرجعوا لإنسانيتهم ويرتدونها من داخلهم، كما حدث للمطرب فضل شاكر الذي إنخرط في الإجرام الداعشي رغم ما حباه الفن من شهرة وأضواء ومال ونجومية.
فبماذا نبرر إنخرط هؤلاء بصفوف الدولة الإسلامية، إلا أن الدواعش نجحوا بتروج إرهابهم ويسوقونه على كافة الأصعدة، و كلها أسباب تصب في بوتقة جهادية واحدة وبحسب مزاج وأهواء و فكر كل مجاهد.
فللمجاهد العربي الشرق أوسطي مُجهَّز له الخطاب الشرعي واللعب في دماغه بفكرة تطويب الجهاد و التمتع ببنات الأصفر كسبايا وإن مات المجاهد فسيربح حوريات الجنة فهو رابحاً حياً أو ميتاَ بالإضافة إلى أنه سيصبح بطلاً لأنه سيحارب لإسترجاع حلم الخلافة المفقود بغلاف من القيم النبيلة والبطولات التاريخية للشخصيات الإسلامية الأولى التي أخرجت دولة الخلافة الأولى من الفكرة لحيِّز التنفيذ.
أما المجاهد الأجنبي ذو العقلية الغربية والذين أغلبهم من أصول إسلامية فهناك العائد المادي لإغراء الشباب وإستمالتهم بالطرح الخيالي و عنصر الإثارة و روح المغامرة لكل ماهو جديد وللدفاع عن أرض الإسلام التي يستمد منها جذوره، فليس ما يمنع تطبيقه لدينه في غربته والرزق يحب الخِفِّية! فالصراع مقدس، فقط إختلطت فيه الأصابع الإستخباراتية بالموروث الديني الجهادي و بمخططات بمستوى عالمي رفيع.
ولو نظرنا على المستوى الداخلي فلم يكن مصادفة إطلاق النفير العام الذي إستدعت به عبر الشاشة مذيعة النظام رشا مجدي وناشدت فيه المواطنين الشرفاء للنزول لإنقاذ القوات المسلحة من إيدين الأقباط المتوحشين! فـ «يا صديقي كلنا دواعش» هي الترجمة الحرفية لمقولة « كلنا سلفيين» التي أطلق صرختها اللواء حسن الرويني وقت مذبحة أقباط ماسبيرو ولم يقولها من فراغٍ.
فالسلفية الوهابية هي أيدلوجية الإرهاب التي تتحرك بحرية الآن وترتع على الساحة تحت مسمع و أنظار القيادات السياسية و إذا أتيحت لهم فرصة حمل السيف ستضرب الأعناق بلا ترددٍ. فهي جاهزة للنفير العام، خصوصاً أن الله لم يهدِ سواهم و أعزّ الإسلام بهم لا بغيرهم!
فأسوأ تراجيديا سوداء أن تجد نفسك محاصر وسط وباء سرطاني متفشي من حولك و رابض بعقر دارك و بين جيرانك فكل واحد يختبئ داعشه في صدره و تحت ملبسه، لينفث كراهية صدره في وجهكَ كل صباح، أو يتحين الفرصة ليُنشِب مخالبه و يغرس أنيابه في لحمك.
قد يشاركك أنفاسك أحيانا و تُغمِّس يده معك أحياناً في طبقك، و تمتد إليك يده من الباب بجريدة الصباح ويناولك ساندويش الفول من العربة التي بناصية بيتكَ و يجلس بجانبك في المواصلات ويعلم أولادك في مدارسهم، و أنت مازلت تتفائل وتراهن بأن الكابوس الأسود بعيداً عنكَ.
رغم أن راياته كانت تملأ التحرير والشوارع وخرجوا من كل حدبٍ وصوب حين نفير ثورات الربيع الإسلامي.
فما يحدث الآن هو نفس مقدمات المخاض المستعصي و مسلسل الرعب الدموي لإسترجاع مذابح زمن الخلافة الداعشية السابقة، ولكننا لم نتخذ العبرة من تاريخهم الأغبر لأننا نتمتع بذاكرة السمك وآفة حارتنا النسيان! أقول الآن تفائلوا لأنه بعد قليل سوف نترحم على الإرهاب الوسطي لإبن لادن و سماحة سيفه وإعتدال دواعشه!