الكاتب : مايكل عزيز البشموري
* صــراع السلطة بين العلمانيين والاكليروس داخل الكنيسة :
في ضوء ما عرضناه بالمقالين السابقين نستطيع القول بأنه كان هناك صراع دائر علي السلطة داخل المؤسسة الكنسية القبطية ، ونشب هذا الصراع بين العلمانيين الاقباط الممثلين في طبقة الاغنياء والمثقفين من جهة ، وبين رجال الاكليروس الممثلين في شخص البابا والاساقفة ورجال الدين من جهة أخري .
كان هناك توجه قبطي عام يسعي لتحقيقه أبناء الكنيسة القبطية من العلمانيين ، ويتمثل هذا التوجه من خلال تمثيل الاقباط سياسياً أمام الدولة المصرية عبر إنشاء ( مجلس ملي عام ) للاقباط الارثوذكس ، ليكون هذا المجلس بمثابة برلمان خاص تابع للاقباط ، يستطيعوا من خلاله إصدار تشريعات ولوائح مدنية تختص بإجراء إصلاحات هيكليه علي المنظومة الكنسية ، وذلك عبر تشريع لائحة مدنية لكيفية تنظيم انتخاب اعضاء هذا المجلس والمدة المقررة لعضويتهم واختصاصاتهم وغير ذلك من التشريعات القانونية العالمية اللازمة لسير عمل المجلس سيراً منتظماً ، وكان هذا التوجه يتزعمه الشاب القبطي / بطرس غالي باشا ، وأقباط مثقفين أخرين ، ولإجل تحقيق هذا الهدف قام اولئك المثقفين بإستصدار أمر عال من الخديوي إسماعيل لإنشاء ( المجلس الملي العام للاقباط الارثوذكس ) ، الذي تم إقراره في يناير عام 1874م ، ليصبح المجلس الواجهه السياسية الاولي لدي الاقباط الارثوذكس في مصر
ومن بين أبرز مهامه :
1- إدارة الكنائس القبطية مالياً .
2- إدارة المشروعات الكنسية الكبيرة .
3- إدارة المدارس والمعاهد القبطية .
4- إدارة الاوقاف القبطية .
5- كتابة لائحة جديدة للاحوال الشخصية القبطية .
6-تقديم خدمات للفقراء والمعوزين من الاقباط.
7- اختيار الكهنة والقسوس بشكل يتناسب مع رغبات أبناء الشعب القبطي وتطلاعاتهم .
وقد أنشئ هذا المجلس في خلال خلو كرسي الكرازة المرقسي من البطريرك ، ومن اللافت للنظر إن تاريخ إنشاء هذا المجلس جاء في نفس العام الذي تم فيه تنصيب البابا كيرلس الخامس بطريركاً علي الكرسي المرقسي بسنة 1874م ، وقد رأي قداسته أن هذا المجلس ينازعه صلاحياته ويشاركه نفس مهامه البابوية ، خاصتا بعد استحصال أعضاء المجلس الملي العام ، علي أمر عال من الخديوي توفيق يوم 14 مايو سنة 1883 والتصديق علي اللائحة الاولي للمجلس محل الخلاف الذي نصت علي :
” وجوب نظر المجلس في مصالح الكنائس وأحوالها وفي المدارس والأوقاف والفقراء والأحوال الشخصية، ورسامة القسس وغير ذلك ” – وكان – البابا كيرلس يشعر بإجحاف كبير من هذه اللائحة خاصتا وهي تتعارض مع سلطته الدينية ، فكان يري أن هذا الامر لم يحدث مع اسلافه البطاركة من قبل، والذين كانوا مستقلين في إدارة شئون الكنيسة وتمثيلهم للاقباط لدي الدولة المصرية ، حتي أصبح هذا الامر قاعدة دينية يصعب التنازل عنها من قبل بطاركة الكنيسة .
وما بين عام 1874 حتي عام 1892 تم انتخاب وتشكيل ثلاث مجالس ملية عبر الانتخاب المباشر ، وفي تلك الاثناء كان يحدث شد وجذب بين رجالات الاكليروس من ناحية ، وبين العلمانيين الاقباط من ناحية أخري ، إلي أن أحتدم الصراع بين الطرفين عام 1892م ، عندما رأي أعضاء المجلس الملي أن وجود البطريرك وسكرتير المجمع المقدس الانبا يؤانس يعطلان ويعرقلان إجراءاتهم ومهامهم نحو إنجاح هذا المجلس ، حينها اجتمع أعضاء المجلس الملي في سابقة تعد هي الاولي من نوعها في تاريخ كنيستنا القبطية – فقــرر – أعضاء المجلس بالاجماع بإبعاد ونفي البطريرك إلي دير البراموس ، والانبا يؤانس إلي دير الانبا بولا ، وتم ذلك في يوم 31 أغسطس سنة 1892م ، ورفعوا هذا القرار إلى مجلس الوزراء فأقره سريعًا .
وقد تم نفي البابا لمدة خمس أشهر عن كرسيه إلي أن رجع إلي منصبة مرة أخري بعد حملة المقاطعة الناجحة التي أطلاقها أبناء الشعب القبطي المتواجدين بالقاهرة والتي قاطعوا فيها أعضاء المجلس الملي ، والكنائس التي كانوا يصلون فيها ، ونجحت تلك الحملة في إرجاع البابا كيرلس إلي كرسيه بسبب الضغط الشعبي والوطني الذي مُورس علي أعضاء هذا المجلس ومؤسسيه ، خاصتا مع بدء الاحتلال الانجليزي علي مصر عام 1893 ميلادية .
*وفـــاة المجلس الملي إكلينيكياً :
نستطيع القــول بأن الهدف الحقيقي من إنشــاء المجلس الملي العام والذي سعي في إنشاءه بطرس غالي باشا ومن معه من نخبة قبطية متميزة ، هو محــاولـــة خلــق ذراع سياســي جديد ، يعتمــد مــن خلالــه الشعب القبطي وكنيستهم لتمثيلهم ( سياسياً واقتصاديا وإجتماعيا ) أمام الدولة المصرية ، والذي سمحت الدولة آنذاك بانشاء هذا المجلس خصيصاً لإجل هذا الغرض ذاته ، ولكن الظروف المواتية والثقافة القبطية الشعبية التي اعتمدت كل الاعتماد علي الكنيسة القبطية في كافة أمور حياتها ، وذلك طيلة الالف عام إبــان الفتح العربي علي مصر ، لم تكــن تلك الثقافــة الشعبية تستوعب جيداً الهدف من إنشــاء هذا المجلس ، ومن ضمن الاسباب الاخري التي ساعدت علي وفـــاة المجلس الملي إكلينيكياً : هو تعرض مصر للاحتلال الانجليزي وقت تأسيسه
ووصول البعثات التبشيرية المسيحية مع المحتل الانجليزي ، لتؤسس تلك البعثات التبشيرية كنائس غير أرثوذكسية تستقطب أبناء الكنيسة القبطية لديهم ، كل تلك الاسباب عالية قد ساهمت في عدم إكتمال هذا المشروع القبطي الوطني الذي كان يحلم بتحقيقه النخب السياسية القبطية آنذاك .
فبعد رجوع البابا كيرلس إلي كرسيه سالماً من المنفي ، وجد البطريرك أن البلاد قد تعرضت إلي الاحتلال الانجليزي ، وأن هناك بعثات تبشيرية كاثوليكية وبروتستانتية تسعي بكل قوة إلي اقتناص أبناء الكنيسة القبطية الارثوذكسية لصالح تلك الكنائس .. الامر الذي قابلة البابا ورجال الكنيسة القبطية حينها بشكلاً من القلق والريبة ، وأحس الشعب القبطي انهم محاطون بكنائس غربية همها الاول هو استقطاب أبنائهم لصالح خدمة المستعمر الانجليزي في مصر ، الامر الذي أدي إلي انصراف نظر أبناء الشعب القبطي في الاهتمام بتشكيل المجلس الملي العام بشكله الصحيح ، فتذكُر المؤرخة القبطية إيريس حبيب المصري بكتابها قصة الكنيسة القبطية الجزء الخامس :
” حدث ان عاود أعضاء المجلس الملي فرض مطالبهم بإنتخاب أعضاء جدد ليباشرون شئون الكنيسة ، وقد دعا البابا كيرلس إلي الاجتماع بأراخنة وكبار الشعب القبطي لبحث هذا الموضوع فحضر سبعين شخصا ، وتم ذلك في يوم 22 مايو سنة 1893 م . واتفق جميع الحاضرين بالإجماع علي وجوب حل المجلس الملي وانتخاب اعضاء جدد ، وفي الفترة ما بين الحل والانتخاب يختار الانبا كيرلس بنفسه أربعة من الاراخنة الاقباط ليباشرون شئون الكنيسة تحت رياسته وبالاتفاق مع قداسته . وكان الرجال الاربعة الذي عينهم البابا لتشكيل هذا المجلس يدينون له بالولاء والطاعة .
وتضيف المؤرخة : ” لقد كان الاتفاق الذي اختيرت بمقتضاه اللجنة الملية ينص علي انها سوف تستمر في عملها لمدة خمس سنوات فقط ، وستجري بعدها انتخابات لمجلس ملي جديد ، علي أن الرجال الاربعة الذين اختارهم الانبا كيرلس قاموا بواجباتهم بدقة وانتظام وبهدوء وتآلف إلي حد أن الجميع نسوا هذا النص! ، وكان أعضاء اللجنة مخلصين لأبيهم الروحي ويطلعونه علي كل كبيرة وصغيرة ويسترشدون بتوجيهاته الأبوية ” .
إذن يتضح لنا من خلال تلك العبارة أن المجلس الملي قد أخذ صورة شرفية فقط لاغير ، وأصبح من الديكورات التي ليس لها أساس من الوجود ، فلم يعد هناك أي انتخابات حقيقية تجري لإختيار أعضاء هذا المجلس بشكلا مستقل وبعيدا عن فرض أي وصاية من قبل الكنيسة القبطية أثناء تلك الحقبة التاريخية ، فأصبح انتخاب أي عضوا بالمجلس يتم بناءا علي أي مدي يدين هذا العضو المنتخب بالولاء لصالح بابا الكنيسة ، وذلك تحت حجة الظروف الحرجة التي تمر بها البلاد آنذاك
وأعتبر بعض الاقباط ان هذا الامر من الاستثناءات الضرورية ، لتضمن الكنيسة أمنها وسلامها الداخلي ضد المؤامرات التي تحاك ضدها من قبل البعثات التبشيرية الاجنبية ، فالاشخاص الموثوق بهم فقط هم من سيعينون لإدارة شئون الكنيسة ، لتمثيلهم بهذا المجلس ، الذي تم إفراغه من مضمونه الحقيقي الذي هو : ” خلق ذراع سياسي جديد ليمثل الاقباط ( سياسيا ، اقتصاديا ، كنسيا ) أمام الدولة المصرية .
يتبع