الثلاثاء , نوفمبر 5 2024
عزاء

عزيز فى عينى الرب موت أتقياؤه “مز 116: 15” نياحة الدكتور جورج عوض

على رجاء القيامة رقد فى الرب الدكتور جورج عوض الباحث والمترجم والأكاديمي فى اللآهوت المسيحي الأبائى.

الخادم المتضع والرجل البار المحب للجميع والمحاضر بالمركز الأرثوذكسي للدراسات الابائية

وداعا دكتور جورج إلى سماء الخلود والراحة

تتقدم أسرة الأهرام الكندي بأحر التعازي وأصدق المواساة لأسرة جورج عوض

وانتقالا لروحه الظاهرة في أحضان إبرهيم وإسحاق ويعقوب.

والأهرام تنشر أحد مقالات المتنيح

المسيح المعلّم [1] (1) الدكتور جورج عوض إبراهيم

يُلقب المسيح فى الأناجيل بلقب “معلّم Διδάσκαλος”. ويُلاحظ أن هذا اللقب أُطلق على المسيح أكثر من أى لقب آخر. لكن بينما يوجد استخدام دائم للقب “معلّم”، إلاّ أن لقب “الرب κύριος طغى، بسبب النبوات عن مجئ الماسيا، فى كل أسفار العهد القديم والعهد الجديد[2].

ونرى فى مخطوطات وادى قمران التى تشير إلى نُساك كانوا يعيشون ربما فى عصر المسيح، أنه كان يوجد انتظار وشوق لمعلّم البر، هذا الذى سوف يعلّم الناموس بالحق، وسوف يفسر الكتاب باستقامة. هذه الصورة كانت مسيطرة فى فكر الشعب وكان هناك شوق لتحقيقها.

لقد اقترب الناس إلى المسيح وهم يحملون مشاكل وتساؤلات تتعلق بالناموس، لقد كانوا ينادونه بلقب ” يامعلم Διδάσκαλε”، لأنهم أرادوا معرفة الإجابات على كل تساؤلاتهم هذه.

إن تعليم المسيح امتد عبر الأزمنة واحتفظ حتى اليوم ببريقه وجاذبيته. وبالرغم من التقدم التكنولوجى المذهل والتطور العلمى الهائل الذى يهدف إلى جعل الإنسان قادرًا على إيجاد حلولاً لمشاكله اليومية، إلاّ أن الواقع يعلن لنا العكس. فالإنسان يوميًا ينقاد إلى أزمات أعمق نراها على كل المستويات المعيشية ونسمعها من خلال صرخات القلق التى تنتاب الإنسان المعاصر الذى كاد يغرق وسط أمواج الحياة المتلاطمة.

مازال تعليم المسيح له فاعليته الفريدة، ومازال يفتح آفاقًا جديدة. إنه دعوة مستمرة: ” تعالوا إلىَّ يا جميع المتعبين والثقيلى الأحمال وأنا أريحكم” (مت28:11)، ” الكلام الذى أكلمكم به هو روح وحياة” (يو63:6).

لكن ما الذى أعطى لتعليم المسيح هذه الجاذبية الدائمة؟ وكيف احتفظ هذا التعليم بفاعليته فى كل العصور؟ للإجابة على هذه التساؤلات نجد أنفسنا فى احتياج لمعرفة الملامح الخاصة والفريدة لتعليم المسيح. سوف نتناول هذا الأمر فى العناصر التالية:

القسم الأول:              

1 ـ المسيح المُعلّم: فى الأناجيل

2 ـ التربية فى عصر المسيح    

3 ـ محتوى التنشئة التربوية فى المجتمع العبرى

القسم الثانى:

1 ـ البيئة التربوية فى عمل المسيح.

2 ـ ملامح تعليم المسيح.          

3 ـ الحرية والمسئولية فى تعليم المسيح:

أ ـ الخوف والحرية

ب ـ الحرية كشهادة حياة

ج ـ المسئولية كتعبير لإدراك الحرية.

القسم الأول

1 ـ المسيح المعلّم في الأناجيل:

أ ـ المسيح المعلّم فى الإنجيل بحسب القديس مرقس :

لقد ركز القديس مرقس اهتمامه على شخص المسيح وعمله مظهرًا الطريقة التي علّم بها وعمل[3]. وقدَّم لنا المسيح الرب والمعلّم الجديد المختلف جوهريًا عن معلّمى عصره. إن كلمة “تعليم” “didac»” ذُكِرت فى بشارته أربع مرات، وفعل “أُعلّم” did£skw ذُكر سبعة عشر مرة. أما كلمة “معلم” rabb… فقد ذُكرت إحدى عشر مرة:

          1 ـ مرة واحدة من معارضيه (مر14:12)

          2 ـ خمس مرات من التلاميذ (مر38:4، 38:9، 35:10، 1:13، 14:14)

          3 ـ مرتين من المرضى (35:5، 17:9)

          4 ـ ثلاث مرات من الذين طلبوا منه تفسير الناموس (17:10، 20، 32:12)

لقد لجأ المعلمون اليهود في عصره إلى التقليد لإقناع الناس بتعاليمهم، وكانوا يقتبسون اقتباسات كثيرة من سابقيهم. وكان المبدأ الثابت للمعلم اليهودى هو: ” لن أقول شيئًا لم أسمعه من الذين علمونى“. كان يميلون دائمًا للتوسع في المناقشات. لكن المسيح علّم بسلطان ولم يستند إلى تعاليم معلّمين سابقين ليستمد منها بمصداقية ما يعلّم به، لكن استند على شخصه وسلوكه وحياته. لذا نجد أن هناك علاقة مباشرة بين شخصه وأقواله وأعماله.

لقد كان تعليم المسيح يمس الحياة ولم يكن عملاً مجردًا. لذا نجد في تعليمه أمورًا تتعلق بالحياة مثل غفران الخطايا، شفاء الأبرص، شفاء المقعد.

إن هدف عمله التعليمى كان تحرير البشر، لذلك نجد أن الناس من كل الطبقات والفئات يخاطبونه يا “معلّم” مثلما فعل الشاب الغنى (مر17:1)، ومجنون قرية الجرجسيين (مت28:8) والفريسيون والهيرودسيون (مر14:12)، كما أن التلاميذ كانوا يخاطبونه يا “معلّم” أثناء هيجان البحر قائلين: ” يا معلّم ألاّ يهمك أننا نغرق” (مر39:4).

وهكذا كان هناك يقين لدى الناس أنه “معلّم”. لقد علّم المسيح في المجامع وفي أماكن خالية (صحراء) وفي الهيكل (مر49:14). لقد أوصى تلاميذه أن يبلغوا رسالة إلى رب البيت الذي سيتمم فيه العشاء العظيم مستخدمين لقب “معلّم” كلقب معروف: ” فقولا لرب البيت إن المعلم يقول أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذى” (مر14:14).

بالتالى فإن ظهور المسيح “كمعلّم” يكشف تدريجيًا سر شخصه الإلهى، وأن رسالته توجهت إلى أماكن مختلفة، وأيضًا فى مناسبات الحياة المتنوعة مثل الاحتفالات العرسية وموائد الأغنياء والفقراء. كما أن الناس كانوا يُبدون استعدادًا ورغبة في سماع أقواله.

لقد رأى القديس مرقس البشير، المسيح كمعلّم يهتم بمشاكل مجتمعه. وكتب إنجيله لكى يساهم في إصلاح وتقويم المجتمع الذي كان يعانى من مشاكل عديدة؛ مثل مشكلة الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء، أو سعي البعض نحو الزعامة لإرضاء ذواتهم.

وقدم مرقس، المسيح المعلّم الذي اخبرنا عن الله: ” فنظر إليهم يسوع وقال. عند الناس غير مستطاع. ولكن ليس عند الله لأن كل شئ مستطاع عند الله” (مر27:10).

حقًا علّم المسيح بسلطان فائق لا تستند على تفسيرات الناموسيين السابقين. لم يستشهد بأى كتاب أو مصدر لكى يعطى قوة ومصداقية لكرازته، فيما عدا العهد القديم الذي استخدمه كإشارة نبوية لعمله الخلاصى.

حرص القديس مرقس أن يقدم تعليم المسيح فى ثلاثة أشكال مميزة تبرهن على أن المسيح كان حريصًا على تقديم تعليمه إلى الجموع بطريقة جذابة وليست مملة. وهذه الأشكال أو الملامح هى:

1 ـ الملمح النقدى لتعليمه، وقد استخدمه مع الفريسيين والكتبة.

2 ـ الأمثال: عندما يتوجه إلى الجموع.

3 ـ تحليل وتفسير الأمثال: عندما ينفرد بتلاميذه (مر34:4).

ب ـ المسيح المعلّم في الإنجيل بحسب القديس متى

يصف القديس متى البشير العمل الماسيانى للمسيح بإعلانات ثلاث(مت23:4، 35:9، 1:11)، والتي فيها يقر بأن المسيح “يعلّم”، و “يكرز” و “يشفى”. وفي الثلاث حالات نلاحظ عنصرين:

1 ـ رصد متتابع لأنشطة المسيح.

2 ـ المسيح هو معلم إسرائيل الذي يفسر طريق الله وفق ناموس الله المُعلن.

دائمًا نجد في إنجيل متى التعليم عن المسيح (الخريستولوجية) في إطار القيامة، لذا عندما يتوجه التلاميذ إلى المسيح بالنداء لا يستخدمون لقب “يا معلّم” لكن لقب: “أيها الرب kÚrie”. وكلمة “kÚrioj” اُستخدمت 61 مرة في إنجيل متى(قارن مر38:4، لو24:8، مت25:8). لكن متى البشير يذكر لقب معلّم “did£skaloj” أو “rabb…” باللغة العبرية على لسان الذين لا يتبعون المسيح بانتظام، أو الذين لا يعرفونه معرفة صحيحة (على سبيل المثال: يهوذا يستخدم لقب “rabb…” في (مت25:26، 49، انظر أيضًا 11:9، 38:12، 16:19، 24:22).

 يتميز متى عن الإنجيليين الآخرين في أنه يتناول “تعليم” المسيح بطريقة منظمة إذ وضع هذه التعاليم فى ثلاثة أحاديث:

1 ـ تعليمه في الموعظة على الجبل حيث نجد وصفًا لنموذج، أو مثالاً للإنسان المنتمى لملكوت الله (متى من إصحاح 5 إلى 7).

2 ـ تعليمه في إرشاداته للرسل بخصوص الكرازة الإنجيلية (مت10).

3 ـ تعليمه في حديث عن مجئ ملكوت الله والدينونة (مت23 إلى 25).

بحسب إنجيل متى يوجد معلّم واحد فقط له سيادة حقيقية، إنه المسيا المنتظر (مت8:23). الذى أرسل الرسل لكى يعلّموا كل الأمم بكلمة الإنجيل.

يُنهى متى إنجيله بإرسالية “تعليمية” عظيمة، علينا أن ندرسها بتدقيق لكى نفهم كل الإنجيل: ” فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً: دُفِع إلىّ كل سلطان فى السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت18:28ـ20). والتلمذة ـ في هذه الأرسالية التعليمية ـ تعنى الخضوع إلى تعليم الكلمة المتجسد، القادر وحده أن يحمي التلاميذ من الأنبياء الكذبة والذئاب الخاطفة حتى يثمر عملهم ويقدمون الثمار التي يريدها الله (مت12:7 وما بعده).

المسيح ـ بحسب القديس متى الإنجيلى ـ هو مفسر الناموس ومعلن إرادة الله للبشر، وسوف يكون له دورًا حاسمًا في أثناء مجيئه في يوم الدينونة وفق المعيار الذي وضعه هو نفسه (مت25:24، 31:25)[4].

لقد نظّم القديس متى الإنجيلى محتوى إنجيله في وحدات موضوعية وليس بحسب جدول زمنى. وهذا يساهم في الفهم الكامل لتعليم المسيح، خاصةً أنه يلفت نظر القارئ إلى الموضوع المحورى في هذه الوحدات، أى أن المسيح هو المسيا ـ معلّم إسرائيل الجديد، لأجل هذا لم يبتعد المسيح عن الكنيسة بل ظل حاضرًا وفاعلاً كمعلّم وقائد في حياة الكنيسة ” ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر” (مت20:28).

ج ـ المسيح المعلّم في الإنجيل بحسب القديس لوقا:

قدم لوقا المسيح كمعلّم متألم يتجاوب مع مشاكل واحتياجات الناس في عصره. ويستخدم لوقا بجانب لقب “معلّم” كلمة “ناظر أو مراقب” epist£thj، بينما القديس مرقس ـ كما سبق أن أشرنا ـ استخدم كلمة “رابىrabb…”، والقديس متى كلمة “رب أو سيد kÚrioj”.

لقد أراد القديس لوقا الإنجيلى أن يشدد على عمل المسيح كمدبر ومعتنى بالعالم، لذا استخدم كلمة “مراقب أو ناظر” لتعلن أنه مسئول عن عملية “تعليمية”، وهذا يُفهم في إطار المجتمع اليونانى. ولأن القديس لوقا كتب إنجيله لجماعات مسيحية من الأمم، فإنه لم يستخدم  لقب “رب ραββί” المألوف بالنسبة لليهود والغريب بالنسبة للأمم.

كتب القديس لوقا الإنجيل وسفر أعمال الرسل مقدمًا المسيح بطريقة مُميزة عن بقية الإنجيليين، خاصةً في “أعمال الرسل”. فقد أظهر كيف أن الروح القدس نقل رسالة الخلاص إلى أقاصى الأرض وأن المسيح كان يعلّم بواسطة أنبيائه (أع27:11ـ28، 1:13، 1بط 10:1ـ11).

فبينما يقدم القديس متى الإنجيلى، المسيح كموسى العظيم مقسّمًا إنجيله إلى خمسة أحاديث تتماثل مع الخمس كتب الأولى للعهد القديم المكتوبين بواسطة موسى، نجد أن لوقا يقدم المسيح كإيليا الجديد. إنه النبى الحار بالروح القدس. الروح رافقه طوال مسيرته حتى الصعود كما حدث مع إيليا. لقد ذكر القديس لوقا أن المسيح أقام ابن أرملة نايين من الموت (لو11:7ـ17) ليذكِّرنا بإيليا الذى أقام ابن أرملة صرفة صيدا (1مل17 وانظر أيضًا لو26:4و27).

أيضًا قدم القديس لوقا المسيح كمعلّم يقوم برحلة عظيمة من الجليل إلى أريحا وأورشليم (لو51:9ـ45:19). وبحسب القديس لوقا فإن أورشليم هى مركز جغرافى له مغزى خلاصى للعالم، إنها المكان الذي منه سوف يصعد المسيح إلى السموات، ومن هناك أيضًا أرسل يسوع تلاميذه ليحملوا رسالة الإنجيل إلى أقاصى المسكونة.

أعطت هذه الرحلة العظيمة للقديس لوقا مادة تعليمية متنوعة تمس الحياة اليومية، فيقدم لنا مثل السامرى الصالح (لو25:10ـ37)، والابن الضال (لو11:15ـ32)، ووكيل الظلم (1:16ـ13)، والفريسى والعشار (9:18ـ14). وأيضًا يركز القديس لوقا على إشارات المسيح لمواضيع خاصة مثل الصلاة (1:11ـ13)، والغنى (13:12ـ34)، والفقر (1:16ـ31)، والبُعد الأخروى للحياة (38:12ـ59)، والأربع أمثلة المرتبطة بالموائد والأكل (لو1:14ـ24)، وفي الأمثال الثلاثة عن التبعية الحقيقية للمسيح (لو25:14ـ35). ويعطى القديس لوقا اهتمامًا خاصًا بموضوع التلمذة الحقيقية، ويكتب لنا عن الشروط التي وضعها المسيح للتلمذة، وكيف أن المسيح استخدم خبرات الحياة اليومية لكى تُفهم هذه الشروط (لو25:14ـ35).

 ونستطيع أن نلاحظ أن لوقا يُظهر يسوع وهو في الاثنى عشر ربيعًا يعلم في الهيكل (لو45:2ـ48)، ويقدم لنا بداية حياة المسيح الجهارية بالإشارة إلى أنه كان يعلّم في المجامع (لو14:4ـ15). ويقدم لوقا في أعمال الرسل تلخيصًا لإنجيله مشيرًا بدقة إلى كل ما علّمه المسيح وفعله (أع1:1، لو5:23).

ومن الجدير بالملاحظة أن القديس لوقا بعد العدد الثالث من الإصحاح السابع يستخدم لقب الرب kÚrioj ثمانية عشر مرة عندما يشير إلى المسيح.

هذا اللقب نادرًا ما يُستخدم قبل قيامة المسيح، لكن من المرجح أن جماعة القديس لوقا كانت تستخدم هذا اللقب عندما كتب إليها إنجيله.

نجد أيضًا في إنجيل القديس لوقا أنه يسرد روايات متوازية تخص رجل وامرأة معًا لكى يؤكد على وجودهما معًا وأنهم متساويان أمام الله بالنعم والعطايا والواجبات.

فعلى سبيل المثال: زكريا وإليصابات (5:1)، سمعان وحنة (25:2ـ28)، أرملة صيدا ونعمان السريانى (25:4ـ28)، شفاء الممسوس وحماة بطرس(31:4ـ39)، سمعان الفريسى والمرأة الخاطئة (36:7ـ50)، الإنسان وحبة الخردل وخميرة المرأة(لو18:3ـ21)، السامرى الصالح ومريم ومرثا (29:10ـ42)، الإنسان والمائة خروف والمرأة والعشرة دراهم (لو4:15،30) القاضى الظالم والأرملة (لو1:18ـ14)، النساء عند القبر وتلميذى عمواس (لو55:23،1:24ـ11، 13:24ـ32).

د ـ المسيح المعلّم في الإنجيل بحسب القديس يوحنا الإنجيلى:

يتناول القديس يوحنا الإنجيلى تعاليم المسيح بطريقة مميزة، فبحسب البشير يوحنا، عصر المسيح هو الذي سبق وتنبأ عنه إشعياء، حيث الكل يعمل مع الله ويقبل كلمته: ” إنه مكتوب في الأنبياء ويكون الجميع متعلمين من الله. فكل مَن سمع من الآب وتعلم يقبل إلىّ” (يو45:6).

يقدم القديس يوحنا، المسيح بعد قيامته مثلما فعل القديس متى، فهو يتوجه إلى الجماعة المسيحية، وليس إلى الذين يريدون أن يتعرفوا على تعليمه.

إن القديس يوحنا الإنجيلى هو تلميذ المخلّص، المتأمل والعميق في نظرته للحوادث الكثيرة التي فعلها المسيح، وأيضًا يرى ويميز في تقليد وتعاليم إسرائيل الإشارات التي تخص المسيح. لقد ركز يوحنا على أهمية وحتمية مجئ الباراقليط وعمله في الكنيسة، فالروح القدس هو الذي يحفظ رسالة وأقوال المسيح، وهو نفسه الذي ينير الفهم الحقيقى لتعليم المسيح، فهو يعلم ويرشد أعضاء الكنيسة ” إلى كل الحق ” (يو26:14).

 لكن المطلب الذي يريده يوحنا هو أن يتعرف الإنسان على ضعفه ويعترف بنقائصه (يو 35:9ـ39)، حتى يتم شفاؤه ويأتى إلى المعلم الوحيد الذي لديه أقوال الحياة الأبدية (يو 69:6)، هذا هو الذي يقدم الحياة (يو40:5) وعلى الإنسان أن يحيا مثلما عاش المسيح بالمحبة وعلّم عنها.

لقد حفظ لنا القديس يوحنا تعليم المسيح المؤثر الذي حدد فيه ملامح ممارسة العمل الإنجيلى للرسل: ” أنتم تدعوننى معلّمًا وسيدًا وحسنًا تقولون لأنى أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلّم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض. لأنى أعطيتكم مثالاً حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا. الحق الحق أقول لكم إنه ليس عبد أعظم من سيده ولا رسول أعظم من مرسله. إن عملتم هذا فطوباكم إن عملتموه” (يو13:13ـ17).

يذكر القديس يوحنا (في الاصحاح الأول) دعوة التلاميذ وأيضًا ألقاب المسيح الخاصة بـ: الكلمة، المسيا، ابن الله، ابن الإنسان، مخلّص العالم، الرب، الله. وفي (11:2) يعلن المسيح مجده، والتلاميذ يؤمنون به. بينما يوحنا يستطرد فى إنجيله بطريقته الفريدة، إذ يتعرف الدارسون في إنجيله على شهادة تاريخية لحياة وعمل المسيح. نتحقق في النصف الأول من إنجيل القديس يوحنا (1ـ12) على أن التلاميذ يستخدمون دائمًا مصطلحات مثل معلم “رابى” rabb… بالعبرية وباليونانية  did£skalojفي الاشارة إلى المسيح، بالرغم من أهمية استخدام مصطلح “رب” kÚrioj.

استخدم القديس يوحنا كلمة معلّم بالعبرية “رابى” ثماني مرات. وهذا اللقب كان يُنسب إلى المسيح تقديرًا من التلاميذ لدوره التعليمى (يو13:13)، لذا أخذ اليهود موقف عدائى ضد المسيح. وعندما كان يستخدم القديس يوحنا كلمة “عالم” kÒsmoj فهو يقصد البشر على وجه الخصوص، لكى يظهر العداء الذى كان بين العالم والمسيح. لذلك في مقدمة إنجيله عن الكلمة المتجسد، يقول ” كان في العالم والعالم لم يعرفه” (يو10:1).

لكن الله أحب العالم حبًا لا نهائي ” حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو16:3)، فالله أرسل ابنه إلى العالم (17:3، 36:10، 18:17) كمخلّص له (42:4، 1يو14:4). لكن “العالم” أخذ موقفًا عدائيًا تجاهه، حتى أنه وصل إلى مستوى كان يحقد فيه على المسيح وتلاميذه (يو8:15). فالعالم يوجد في الظلمة ولم يقبل نور حياة وتعليم المسيح، وهذا لأنه تحت سلطان ” رئيس هذا العالم” (يو3:12، 30:4، 11:16) فالعالم “وضع في الشرير” (1يو 19:5). العالم لم يدرك أن المسيح هو ” نور العالم” (يو12:8). لكن هو الذى انتصر على الظلمة، لذلك مَن يؤمن به ينتصر على قساوة وعداوة العالم، يكفى أنه لا يحب العالم (1يو 15:2)، لأن العالم يمضى وشهوته (1يو17:2).

  يركز البشير يوحنا في إنجيله على نتائج ابتعاد الإنسان عن الله، أيضًا يبرز التضاد بين النور والظلمة، الحق والكذب، الموت والحياة. وهذا التضاد أو الثنائية تنطلق ـ في إنجيله ـ من التعليم عن المسيح (الخريستولوجية). فالمسيح هو نور العالم (يو12:8) حيث ” النور يضىء في الظلمة” لكن ” الظلمة لم تدركه” (يو5:1). ” لتصيروا أبناء النور..” (يو36:12).

الاستجابة لهذه الدعوة لن تكون فقط بالمعرفة العقلية لكن بالإيمان. فالعقل بمفرده لن يستطيع أن يخرج الإنسان من الظلمة لأنه قد يكون هو نفسه مظلم، لكن الإيمان هو الذي يخرج هذا الإنسان من الظلمة إلى النور. فالإيمان يجعلنا نصير أبناء النور، والنور ضرورى لحياة الإنسان، لأن ” مَن يمشى في الليل يعثر لأن النور ليس فيه” (يو35:12).

المعرفة ليست معرفة ذهنية مجردة، لكن حياة مؤسسة على الشركة ” وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” (يو3:17).

والمعيار الواضح لهذه المعرفة هو المحبة: ” الذي يحبنى يحفظ وصاياى” (يو15:14). وكل الوصايا تتلخص في وصية واحدة: ” هذه هى وصيتى أن تحبوا بعضكم بعضا كما أحببتكم” (يو12:15).

بتأنس الكلمة، قدم الله للإنسان “النعمة والحق” (يو14:1). عمل المسيح ـ بحسب اعلانه ـ هو شهادة الحق (يو37:18).

كان هناك تصادم بين جماعة القديس يوحنا الإنجيلى والمجمع اليهودى، وهذا الوضع توجد جذوره في الصراع الذي كان بين المسيح وخصومه من اليهود. ولا يشكك القديس يوحنا في الناموس، لكن يركز على أن اعلان المسيح يتخطى الناموس، وفهم الناموس مرهون بإيمان المرء بالمسيح أو بعدم إيمانه. ويشدد القديس يوحنا على حضور المسيح الفعّال ولا يكتفى بالإشارة إلى أحاديثه.

لا يذكر إنجيل القديس يوحنا مثل الأناجيل الثلاثة الأولى، تعليم المسيح فيما يخص أمورًا متنوعة فى الحياة اليومية، لهذا لا نجد فى رواية إنجيل يوحنا تعاليم وردود المسيح على تساؤلات الناس بخصوص ملكوت السموات. لقد وصف يوحنا المسيح كمعلّم بطريقة سريعة موجزة (يو14:7، يو20:18) لكن ليس كالإنجيليين الباقين (مثلاً متى 29:7، 16:22).

لقد وصف مدى دقة تعليم المسيح ومدى تأثير سامعيه حين قال: ” فتعجب اليهود قائلين كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم ” (يو15:7).

يتحقق المرء في إنجيل القديس يوحنا من حضور الباراقليط الذي هو بالحرى المعلّم.

وهدفه التعليمى هو أن يُذَّكر المسيحيين بالمسيح وبتعليمه: ” وأما المعزى الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمى فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو25:14).

هكذا نستطيع أن نرى بوضوح:

1ـ أن الكلمة المتجسد بواسطة كلمته يهدف إلى تفعيل قدرات الإنسان النفسية والجسدية[5].

2ـ تعليم المسيح يمثل الأساس والوسيلة التي بها يتجه الإنسان الساقط إلى قرار بشأن تغييره الكيانى.

في هذا الإطار يكتسب عمل المسيح التعليمى والتربوى أهمية عظيمة لأن هذا العمل يمثل دافعًا لكل باحث تربوى ليفتش على العناصر التي تساهم في مثل هذا التغيير الجذرى للمواقف والسلوكيات، الأمر الذي يهدف إليه علم النفس التربوى الحديث بأشكال متنوعة.       

بالتأكيد إن الأناجيل الأربعة لم تخطط مسبقًا لتقديم المسيح كمعلّم بتحليل ووصف لقدراته ومهاراته التعليمية. لكن قدمت شهادتها لحياة وعمل المسيح بوعى وإدراك التلاميذ. فعلاقتهم كانت علاقات اختبارية بين المعلم والتلاميذ.

إن تناول عمل المسيح التعليمى لا يمكن أن يصير خارج المعطيات التاريخية والاجتماعية للعصر الذي كتب فيه الإنجيليون، طالما أن عمل الخلاص يخص الإنسان الذى يعيش فى التاريخ. على الجانب الآخر لا يمكن أن نأتى إلى البُعد الأخروى للتعليم إن لم نقبل وجود واقع تاريخى كبداية لهذا البعد الأخروى.

 الدكتور جورج عوض إبراهيم

الدكتور جورج عوض

شاهد أيضاً

المصريون يعتقدون بأن “الأكل مع الميت” فى المنام يعني قرب الموت .. وعالم يؤكد بأنه خير

يستيقظ جزء كبير من المصريين باحثين عن تفسير ما كانوا يحلمون به بالليل بل ويقضون …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.