الأربعاء , أغسطس 14 2024
أخبار عاجلة
القديس البابا كيرلس الخامس

المجلس الملي العام ” برلمان الأقباط المنسى 2″

الكاتب : مايكل عزيز البشموري


الشتاء الحزين- في المنفي :


رفع البابا كيرلس أحطاب الخشب الملقاه أسفل الشجر ، وقام بحملها ليوقد بها النيران للتدفئة ، ثم جلس البابا بزيه الرهباني البسيط أمام حديقته التي انشأها بديره البراموس – جلس وحيداً صامتاً – وتأمل بنظرات يصاحبها ابتسامه رقيقة دافئة تلك الحديقة بأشجارها الجميلة اليافعة ، الذي اهتم بزراعتها عندما كان راهبا بهذا الدير ،

وكيف تحولت تلك الارض الجرداء إلي حديقة نضره يانعه ، وفي تلك الاثناء إنتاب البابا غصات من الالم عندما تذكر ما تعرض له من قبل أبناءه ، فلم يخطر علي باله أنه سوف يأتي يوما من الايام ويقوم أولاده بنفيه في الدير لمجرد نشوب خلاف في طريقة إدارة الكنيسة الذي اؤتمن علي رعايتها ، تساءل البابا في نفسه بغصه هل بعد تلك السنين العديدة أعامل هكذا من قبل أبنائي بتلك المعاملة ؟ – هؤلاء – الابناء يريدون التشبه بأهل العالم ويحلمون بمناصب سياسية علي حساب كنيستهم ، أما أنا فلست من أهل هذا العالم ولا أقبل بمناصب دنيوية ولن أسمح لهم بفعل ذلك ، أهل المجلس الملي الذي يريدونه هذا سيشبع رغباتهم السياسية ؟ وهل سأبقي بعيدا منفيا عن كنيستي الحبيبة ؟ صمت البابا لحظة قليلة ثم استنشق انفاسا عميقة واغمض عينيه وابتدأ يصلي إلي خالقه ليرفع الرب تلك الغمة عن كنيسته .


ولد أبينا القديس البابا كيرلس الخامس في مدينة تزمنت بمحافظة بني سويف عام 1824 م . من أبوين تقيين فسمياه يوحنا ، وكان الشاب يوحنا من محبي الدراسة في الكتاب المقدس وأخبار القديسين ، ولما بلغ هذا الشاب البار عشرون عاما إشتاق أن يحيا حياة الرهبانية الملائكية ، وأراد أن يكرس حياته لمخلصه المسيح ليعيش حياة الزهد والتقشف والبتولية ، فذهب إلي دير البراموس وترهبن هناك عام 1844 م .

وسمي بإسم الراهب يوحنا البراموسي ، وعرف فيما بعد بإسم يوحنا الناسخ لإنه كان دائما ما يقوم بنسخ وطباعة الكتب بخط يديه ، وكانت ظروف دير البراموس حينها صعبة للغاية ، فلم يكن بالدير سوي أربعة رهبان ، ولكن حياة الراهب يوحنا الناسخ ونسكه واهتمامه بالقراءة والنساخة قد جذبت كثيرين للحياة الرهبانية المقدسة ، وبعد عامين من رهبنته طلب الرهبان سيامته كاهناً ، فرسمه البابا ديمتريروس الثاني قساً ، وطلب البابا ديمتريوس من الراهب يوحنا البقاء معه بالبطريركية وذلك لمعاونته بأمور الكنيسة لان البابا أيقن جديته وروحانيته القوية .

وبعد نياحة البابا ديمتريوس الثاني رُسم الراهب يوحنا الناسخ بطريركاً علي الكنيسة القبطية الارثوذكسية ليصبح البابا الـمائة والثاني عشر من تعداد باباوات الاسكندرية ، ليتم في عهده إصلاحات عديدة داخل الكنيسة القبطية ، وظهر في عهده رجال أقباط قديسين ، فقد قام هذا البطريرك المبارك في عام 1881م .

برسامة الراهب بولس المحرقي بإسم الانبا آبـــرام (قديس الفيوم) ليكون مطرانا علي كرسي الفيوم وبني سويف والبهنسا .
ومن أبرز العلماء الاقباط الذين ظهروا في عصره الأب اللاهوتي الايغومانس فيلوثاؤس ابراهيم الطنطاوي رئيس الكنيسة المرقسية الكبرى والراهب الناسك الزاهد القمص عبد المسيح صليب البراموسي ، والمتنيح الشماس حبيب جرجس الذي اتخذه البابا شماسا وخادما خاصا له .


*مقاطعة الاقباط لكنيستهم:


جـــاء إبعــاد البابا كيرلس الخامس ونفيه عن كرسيه الرسولي بالنسبة لإبناء الشعب القبطي بالامر الاستفزازي والخطير ، فإلتف الشعب حول أبيه بصورة لم يشهدها التاريخ ، وجاء رد فعل الاقباط علي تلك الفعلة النكراء سريعاً ، فقاموا بمقاطعة الكنائس التي يصلي فيها أعضاء المجلس الملي العام وعدم الذهاب اليها ، وتم مقاطعة أسقف صنبو وكهنته الذين إنحازوا لإعضاء المجلس الملي وباركوا خطوات المجلس بعزل أبيهم ونفيه ، وكانت هذه المقاطعة شاملة كل كنائس مدينة القاهرة ، فكان الشعب عندما يريد الصلاة يذهب إلي كنائس الجيزة والمحافظات الاخري المجاورة ، وذلك لحضور القداسات ، تاركين خلفهم كنائسهم القريبة من منازلهم ، والذي اعتادوا أن يصلوا فيها قبل وقوع تلك الكارثة .

ولم يكتفي الاقباط بالمقاطعة وحسب ، ولكنهم استمروا في إرسال التلغرافات والخطابات التي تناشد الحكومة المصرية والخديو توفيق بضرورة رجوع أبيهم الانبا كيرلس مرة أخري إلي كرسيه ، وقد كتبت جريد الوطن أكبر الجرائد المصرية وقتها مقالات تدافع فيها عن البابا الذي تم نفيه عن كرسيه قسراً ، وحاول أعضاء المجلس الملي العام إستمالة بعض أساقفة الصعيد لتأييد مساعيهم نحو عزل البابا عن كرسيه ، ولكن باءت كل محاولاتهم بالفشل بسبب تأييد أساقفة الصعيد لإبيهم والوقوف خلفه .


عـــودة العمــلاق :


أيقــن بطرس غالي باشا ومن معه من أقباط مؤيدين لفكرة المجلس الملي العام أن ما قاموا به هو تصرف طائش في حق أبيهم وراعيهم ، فلا يليق أبداً أن يعامل قامة روحية ووطنية كبيرة مثل البابا كيرلس الخامس بهذا الاسلوب الغير لائق ، ومن هذا المنطلق تقابل أراخنة الشعب القبطي مع السياسي القبطي بطرس غالي وأكدوا له وجوب عودة البابا كيرلس لحماية الشعب من البلبلات الداخلية ، وقد وافق بطرس غالي علي عودة البابا الي كرسيه دون فرض أي شروطا عليه ، وعلي أثر هذه المقابلة أرسل جميع أساقفة الكنيسة والاراخنة وأبناء الشعب القبطي خطاب إستراحم كتابي مقدم إلي الخديوي توفيق يناشدوه فيه بضرورة عودة البابا الي كرسيه ، وُقدم هذا الاسترحام في 3 يناير سنة 1893م ، وقام رياض باشا رئيس الوزارء المصري وقتها ، بإستصدار أمرا من القصر الخديوي ينص بعودة البابا كيرلس الخامس الي منصبه البابوي ، ورجوع الانبا يؤانس مطران البحيرة وسكريتر المجمع المقدس إلي ايبراشيته ، وذلك في 30 يناير 1893م ، وكانت فرحة الاقباط كبيرة للغاية بعد صدور هذا القرار ، فيقول أحد المؤرخين عن تلك الحقبة :

” يعجز لساني عن وصف ما شمل جميع المصريين علي اختلاف أجناسهم وبالاخص القبط من السرور والانشراح علي صدور هذا القرار بإعادة رئيسهم الديني الاعلي ” ، وهنا نريد التنويه علي انه تم اتخاذ قرار نفي البابا كيرلس الخامس عن كرسيه في 31 اغسطس 1892 ، وتم رجوعه في 30 يناير 1893م أي ظل خمسة أشهر بعيداً عن كرسيه قسرا .


* من كتاب قصة الكنيسة القبطية لإيريس حبيب المصري :


هذا وقد أوفدت الحكومة المصرية موفد خاص إلي دير البراموس لإخبار البابا برجوعه مرة أخري الي كرسيه ، وذهب مع الموفد الرسمي ثلاث أساقفة واراخنة الشعب القبطي ليتم الاعداد لإستقبال تاريخي لقداسة البابا في قطــار رسمي قد خصصته الدولة لوصول البابا لمدينة القاهرة .


” وما ان تحرك القطار المقل للانبا كيرلس من الدير حتي ارسل ناظر المحطة تليغرافا الي محطة القاهرة يبلغهم فيه بأن قداسة البابا سيصل الساعة الرابعة والنصف .

وفي الحال بدأ الاقباط يدقون أجراس الكنائس اعلانا للبشري المفرحة فتقاطرت الجماهير القبطية والمصرية علي المحطة وعلي الدار البابوية .

كما أن القطار كلما وقف علي محطة وجد الانبا كيرلس الرصيف مزدحما بالكهنة والشمامسة والشعب ، وكلهم يهللون ويرتلون .

فلما وصل القطار الي محطة القاهرة استقبله علي رصيفها كبار رجال الدولة ، وعزفت الفرقة الحكومية للموسيقي السلام الوطني .

وخرج يحيط به مستقبلوه واخذوا يشقون طريقهم وسط الجماهير المتراصة بينما تعالت أصوات الهتافات والزغاريد .

وركب البابا العربة المرسلة له من الحكومة المصرية ، فأحاط به الجنود علي شكل نصف دائرة ، وسارت العربة خطوة خطوة لتزاحم الناس حولها ، وقد تبعت العربة البابوية عربة محافظ القاهرة وعربات أكابر البلاد ومتقدميها . وقد صحبه الجميع الي الدار البابوية حيث هناؤه بسلامة العودة والتمسوا بركته الرسولية وصلواته الابوية “.
وقد عبر البابا عن محبته للجميع قائلا :


” أنتم موضوع تعزيتي ولكم كل محبتي . أنتم مصّورون فّي ومرسومون في أحشائي ومكتوبون في ذاكرتي ، وأسماؤكم منقوشة علي صدري – ليس بقلم وحبر بل بالمحبة في الروح القدس ، فهل أستطيع أن أنساكم ؟ “
وتضيف الكاتبة ايريس حبيب المصري عن هذا الاستقبال العظيم قائلة : ” لقد أخبرتني امي أنها كانت طفلة يومذاك ، وكانت الشقة التي تسكنها العائلة في الدرب الواسع قرب الكاتدرائية المرقسية .

فوقفت في الشرفة تتأمل الموكب الذي سد جميع الطرف والازقة ، ومن فرط الفرح فرش الاقباط الشوراع والميدان من المحطة الي الدار البابوية بالسجاجيد ، وعلقوا الرايات ، وكانوا يقدمون الشربات والحلوي لكل الجموع المحتشدة علي طول الطريق ” .


ووصف الكاتب الانجليزي ليدر الاستقبال الاسطوري للبابا كيرلس الخامس بالقاهرة بالقول : ” لقد عــاد البطريرك من المنفي ، كعملاق تجدد نشاطه ، وكعملاق تجدد نفوذه ” .
للحديث بقية

شاهد أيضاً

الدكتور عماد فيكتور سوريال يتحدث من خلال الجزء الثالث للأحوال الشخصية عن المرأة

23 رِيحُ الشِّمَالِ تَطْرُدُ الْمَطَرَ، وَالْوَجْهُ الْمُعْبِسُ يَطْرُدُ لِسَانًا ثَالِبًا. 24 اَلسُّكْنَى فِي زَاوِيَةِ السَّطْحِ، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.