الكاتب : مايكل عزيز البشموري
الشتاء الحزين- في المنفي :
رفع البابا كيرلس أحطاب الخشب الملقاه أسفل الشجر ، وقام بحملها ليوقد بها النيران للتدفئة ، ثم جلس البابا بزيه الرهباني البسيط أمام حديقته التي انشأها بديره البراموس – جلس وحيداً صامتاً – وتأمل بنظرات يصاحبها ابتسامه رقيقة دافئة تلك الحديقة بأشجارها الجميلة اليافعة ، الذي اهتم بزراعتها عندما كان راهبا بهذا الدير ،
وكيف تحولت تلك الارض الجرداء إلي حديقة نضره يانعه ، وفي تلك الاثناء إنتاب البابا غصات من الالم عندما تذكر ما تعرض له من قبل أبناءه ، فلم يخطر علي باله أنه سوف يأتي يوما من الايام ويقوم أولاده بنفيه في الدير لمجرد نشوب خلاف في طريقة إدارة الكنيسة الذي اؤتمن علي رعايتها ، تساءل البابا في نفسه بغصه هل بعد تلك السنين العديدة أعامل هكذا من قبل أبنائي بتلك المعاملة ؟ – هؤلاء – الابناء يريدون التشبه بأهل العالم ويحلمون بمناصب سياسية علي حساب كنيستهم ، أما أنا فلست من أهل هذا العالم ولا أقبل بمناصب دنيوية ولن أسمح لهم بفعل ذلك ، أهل المجلس الملي الذي يريدونه هذا سيشبع رغباتهم السياسية ؟ وهل سأبقي بعيدا منفيا عن كنيستي الحبيبة ؟ صمت البابا لحظة قليلة ثم استنشق انفاسا عميقة واغمض عينيه وابتدأ يصلي إلي خالقه ليرفع الرب تلك الغمة عن كنيسته .
ولد أبينا القديس البابا كيرلس الخامس في مدينة تزمنت بمحافظة بني سويف عام 1824 م . من أبوين تقيين فسمياه يوحنا ، وكان الشاب يوحنا من محبي الدراسة في الكتاب المقدس وأخبار القديسين ، ولما بلغ هذا الشاب البار عشرون عاما إشتاق أن يحيا حياة الرهبانية الملائكية ، وأراد أن يكرس حياته لمخلصه المسيح ليعيش حياة الزهد والتقشف والبتولية ، فذهب إلي دير البراموس وترهبن هناك عام 1844 م .
وسمي بإسم الراهب يوحنا البراموسي ، وعرف فيما بعد بإسم يوحنا الناسخ لإنه كان دائما ما يقوم بنسخ وطباعة الكتب بخط يديه ، وكانت ظروف دير البراموس حينها صعبة للغاية ، فلم يكن بالدير سوي أربعة رهبان ، ولكن حياة الراهب يوحنا الناسخ ونسكه واهتمامه بالقراءة والنساخة قد جذبت كثيرين للحياة الرهبانية المقدسة ، وبعد عامين من رهبنته طلب الرهبان سيامته كاهناً ، فرسمه البابا ديمتريروس الثاني قساً ، وطلب البابا ديمتريوس من الراهب يوحنا البقاء معه بالبطريركية وذلك لمعاونته بأمور الكنيسة لان البابا أيقن جديته وروحانيته القوية .
وبعد نياحة البابا ديمتريوس الثاني رُسم الراهب يوحنا الناسخ بطريركاً علي الكنيسة القبطية الارثوذكسية ليصبح البابا الـمائة والثاني عشر من تعداد باباوات الاسكندرية ، ليتم في عهده إصلاحات عديدة داخل الكنيسة القبطية ، وظهر في عهده رجال أقباط قديسين ، فقد قام هذا البطريرك المبارك في عام 1881م .
برسامة الراهب بولس المحرقي بإسم الانبا آبـــرام (قديس الفيوم) ليكون مطرانا علي كرسي الفيوم وبني سويف والبهنسا .
ومن أبرز العلماء الاقباط الذين ظهروا في عصره الأب اللاهوتي الايغومانس فيلوثاؤس ابراهيم الطنطاوي رئيس الكنيسة المرقسية الكبرى والراهب الناسك الزاهد القمص عبد المسيح صليب البراموسي ، والمتنيح الشماس حبيب جرجس الذي اتخذه البابا شماسا وخادما خاصا له .
*مقاطعة الاقباط لكنيستهم:
جـــاء إبعــاد البابا كيرلس الخامس ونفيه عن كرسيه الرسولي بالنسبة لإبناء الشعب القبطي بالامر الاستفزازي والخطير ، فإلتف الشعب حول أبيه بصورة لم يشهدها التاريخ ، وجاء رد فعل الاقباط علي تلك الفعلة النكراء سريعاً ، فقاموا بمقاطعة الكنائس التي يصلي فيها أعضاء المجلس الملي العام وعدم الذهاب اليها ، وتم مقاطعة أسقف صنبو وكهنته الذين إنحازوا لإعضاء المجلس الملي وباركوا خطوات المجلس بعزل أبيهم ونفيه ، وكانت هذه المقاطعة شاملة كل كنائس مدينة القاهرة ، فكان الشعب عندما يريد الصلاة يذهب إلي كنائس الجيزة والمحافظات الاخري المجاورة ، وذلك لحضور القداسات ، تاركين خلفهم كنائسهم القريبة من منازلهم ، والذي اعتادوا أن يصلوا فيها قبل وقوع تلك الكارثة .
ولم يكتفي الاقباط بالمقاطعة وحسب ، ولكنهم استمروا في إرسال التلغرافات والخطابات التي تناشد الحكومة المصرية والخديو توفيق بضرورة رجوع أبيهم الانبا كيرلس مرة أخري إلي كرسيه ، وقد كتبت جريد الوطن أكبر الجرائد المصرية وقتها مقالات تدافع فيها عن البابا الذي تم نفيه عن كرسيه قسراً ، وحاول أعضاء المجلس الملي العام إستمالة بعض أساقفة الصعيد لتأييد مساعيهم نحو عزل البابا عن كرسيه ، ولكن باءت كل محاولاتهم بالفشل بسبب تأييد أساقفة الصعيد لإبيهم والوقوف خلفه .
عـــودة العمــلاق :
أيقــن بطرس غالي باشا ومن معه من أقباط مؤيدين لفكرة المجلس الملي العام أن ما قاموا به هو تصرف طائش في حق أبيهم وراعيهم ، فلا يليق أبداً أن يعامل قامة روحية ووطنية كبيرة مثل البابا كيرلس الخامس بهذا الاسلوب الغير لائق ، ومن هذا المنطلق تقابل أراخنة الشعب القبطي مع السياسي القبطي بطرس غالي وأكدوا له وجوب عودة البابا كيرلس لحماية الشعب من البلبلات الداخلية ، وقد وافق بطرس غالي علي عودة البابا الي كرسيه دون فرض أي شروطا عليه ، وعلي أثر هذه المقابلة أرسل جميع أساقفة الكنيسة والاراخنة وأبناء الشعب القبطي خطاب إستراحم كتابي مقدم إلي الخديوي توفيق يناشدوه فيه بضرورة عودة البابا الي كرسيه ، وُقدم هذا الاسترحام في 3 يناير سنة 1893م ، وقام رياض باشا رئيس الوزارء المصري وقتها ، بإستصدار أمرا من القصر الخديوي ينص بعودة البابا كيرلس الخامس الي منصبه البابوي ، ورجوع الانبا يؤانس مطران البحيرة وسكريتر المجمع المقدس إلي ايبراشيته ، وذلك في 30 يناير 1893م ، وكانت فرحة الاقباط كبيرة للغاية بعد صدور هذا القرار ، فيقول أحد المؤرخين عن تلك الحقبة :
” يعجز لساني عن وصف ما شمل جميع المصريين علي اختلاف أجناسهم وبالاخص القبط من السرور والانشراح علي صدور هذا القرار بإعادة رئيسهم الديني الاعلي ” ، وهنا نريد التنويه علي انه تم اتخاذ قرار نفي البابا كيرلس الخامس عن كرسيه في 31 اغسطس 1892 ، وتم رجوعه في 30 يناير 1893م أي ظل خمسة أشهر بعيداً عن كرسيه قسرا .
* من كتاب قصة الكنيسة القبطية لإيريس حبيب المصري :
هذا وقد أوفدت الحكومة المصرية موفد خاص إلي دير البراموس لإخبار البابا برجوعه مرة أخري الي كرسيه ، وذهب مع الموفد الرسمي ثلاث أساقفة واراخنة الشعب القبطي ليتم الاعداد لإستقبال تاريخي لقداسة البابا في قطــار رسمي قد خصصته الدولة لوصول البابا لمدينة القاهرة .
” وما ان تحرك القطار المقل للانبا كيرلس من الدير حتي ارسل ناظر المحطة تليغرافا الي محطة القاهرة يبلغهم فيه بأن قداسة البابا سيصل الساعة الرابعة والنصف .
وفي الحال بدأ الاقباط يدقون أجراس الكنائس اعلانا للبشري المفرحة فتقاطرت الجماهير القبطية والمصرية علي المحطة وعلي الدار البابوية .
كما أن القطار كلما وقف علي محطة وجد الانبا كيرلس الرصيف مزدحما بالكهنة والشمامسة والشعب ، وكلهم يهللون ويرتلون .
فلما وصل القطار الي محطة القاهرة استقبله علي رصيفها كبار رجال الدولة ، وعزفت الفرقة الحكومية للموسيقي السلام الوطني .
وخرج يحيط به مستقبلوه واخذوا يشقون طريقهم وسط الجماهير المتراصة بينما تعالت أصوات الهتافات والزغاريد .
وركب البابا العربة المرسلة له من الحكومة المصرية ، فأحاط به الجنود علي شكل نصف دائرة ، وسارت العربة خطوة خطوة لتزاحم الناس حولها ، وقد تبعت العربة البابوية عربة محافظ القاهرة وعربات أكابر البلاد ومتقدميها . وقد صحبه الجميع الي الدار البابوية حيث هناؤه بسلامة العودة والتمسوا بركته الرسولية وصلواته الابوية “.
وقد عبر البابا عن محبته للجميع قائلا :
” أنتم موضوع تعزيتي ولكم كل محبتي . أنتم مصّورون فّي ومرسومون في أحشائي ومكتوبون في ذاكرتي ، وأسماؤكم منقوشة علي صدري – ليس بقلم وحبر بل بالمحبة في الروح القدس ، فهل أستطيع أن أنساكم ؟ “
وتضيف الكاتبة ايريس حبيب المصري عن هذا الاستقبال العظيم قائلة : ” لقد أخبرتني امي أنها كانت طفلة يومذاك ، وكانت الشقة التي تسكنها العائلة في الدرب الواسع قرب الكاتدرائية المرقسية .
فوقفت في الشرفة تتأمل الموكب الذي سد جميع الطرف والازقة ، ومن فرط الفرح فرش الاقباط الشوراع والميدان من المحطة الي الدار البابوية بالسجاجيد ، وعلقوا الرايات ، وكانوا يقدمون الشربات والحلوي لكل الجموع المحتشدة علي طول الطريق ” .
ووصف الكاتب الانجليزي ليدر الاستقبال الاسطوري للبابا كيرلس الخامس بالقاهرة بالقول : ” لقد عــاد البطريرك من المنفي ، كعملاق تجدد نشاطه ، وكعملاق تجدد نفوذه ” .
للحديث بقية