الجمعة , نوفمبر 22 2024
القس لوقا راضى

للأمانة وللتاريخ “2” طه حسين والنحاس باشا ومجانية التعليم .

القس لوقا راضى القوصيه اسيوط

يشيع بين عدد منا القول بأن ثورة يوليو 1952 هى التى متّعت التعليم فى مصر بالمجانية، وهذه مقولة تاريخية لا تعبر إلا عن جزء بسيط من الحقيقة، لكن حكم التاريخ ينبغى ألا تحجبه مشاعر إعجاب وتقدير، لدى كثرتنا تجاه ثورة يوليو، فما حدث خلال ثورة يوليو كان قراراً بمجانية التعليم العالى، جاء فى خطاب لجمال عبد الناصر فى يوليو عام 1962، بعد أن كانت قد ترسخت فى التعليمين الابتدائى عام 1944، والثانوى عام 1950، على يد طه حسين.

وكان طه حسين يسخر سخرية شديدة من بعض الآراء التى قيلت تحت قبة البرلمان فى مقال له فى كوكب الشرق

( آراء ، 31/3/1933 )، ذلك أن هذه الآراء بدا أنها تنظر إلى التعليم وكأنه ترف لا ينبغى لسواد الناس أن تتلقاه، وكأن انتشاره يمكن أن يؤدى إلى خطر اجتماعى ويعين على الشيوعية !!

فهذا واحد ينذر مصر بخطر داهم إذا لم تعدل عن هذا التعليم الإلزامى ” فهو وسيلة الاشتراكية والشيوعية، وإذا فالأمية خير منه ” ! وعلى ذلك فإن قائل هذا ينظر إلى المصريين نظرة مؤسفة حقا، فهو يريد أن يعنى بأجسامهم لا بعقولهم، وبالتالى فهم كالحيوانات، مفروض أن نعنى بأجسامها حتى تنتج لنا ما نريد، ومن هنا جاء تساؤل مفكرنا الساخر :

” أليس خيرا من هذا أن للحكام أن يظل الشعب جاهلا قوى البنية ينتج ولا يستفيد كما أن الخير لصاحب الماشية أن يظل الحيوان حيوانا ولكنه على ذلك قوى البنية ينتج ولا يستفيد ؟ ” .


وفى الرابع من فبراير عام 1942، تشكلت حكومة الوفد، خلال الموقف الشهير، برئاسة مصطفى النحاس، واختير أحمد نجيب الهلالى وزيرا للمعارف، والذى اختار بدوره الدكتور طه حسين مستشارا فنيا للوزارة، حيث تشير وقائع الأحداث التعليمية زمنها بأن بصمته ظاهرة، وفكره حاكم وموجِّه، وهو ما يتضح جليا من التقرير الخطير الذى صدر فى نوفمبر عام 1943 بعنوان( تقرير عن إصلاح التعليم فى مصر).

ويبدو أن صدور هذا التقرير كان تأسيا بما صدر فى بريطانيا فى الفترة نفسها، مما عرف باسم ( الكتاب الأبيض)، وملاحظة التركيز الشديد خلال صفحاته، على أن بريطانيا ينبغى أن تمتثل لخبرة الحرب العالمية بأن تعيد النظر فى بناء المواطن الإنجليزى، بحيث يتم التركيز على النهج الديمقراطى، وأن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بأن يكون التعليم نفسه ديمقراطيا متاحا للمواطنين كافة، لا يحول بينهم وبين المتع به عقبة من مال أو نوع أو طبقة أو دين أو مذهب.


ووفقا لما جاء فى ص 34 من التقرير المصرى، فقد لوحظ أن تلميذ المدرسة الابتدائية فى مصر كان يدفع 10 جنيهات، بينما تكلفته 24 جنيها، ويدفع 20 جنيها فى التعليم الثانوى، بينما يتكلف 43 جنيها.


ولما كانت الكثرة الغالبة من الفقراء لا يستطيعون دفع هذه المصروفات، فقد كان هذا يعنى أن الدولة تدعم الأغنياء، مما استفز التقرير وكأننا نسمع تساؤله الصارخ:” فأى عدل اجتماعى فى هذا؟ وأين مكانه من الديمقراطية التى تحرص على التزام اساليبها فى نظام الحكم؟”

وقدم الهلالى هذا التقرير إلى مجلس النواب لمناقشته، للتعرف على أراء الأعضاء فيما جاء به، واستمرت المناقشات أيام 3، 4، 5، و10، 12 يناير عام 1944.

وفى بداية المناقشة أكد الهلالى على أهمية أن يكون التعليم حظا شائعا بين المواطنين جميعا، يقوم أمرهم فيه على المساواة التى هى أساس الديمقراطية التى يكفلها الدستور(1923): ” لأنه ليس من العدالة الاجتماعية أن تكون مهمة الطبقة العاملة أن تكدح وتكدح، وننكر عليها حقها فى التفكير وفى الاستمتاع بنور العلم”.

وبالفعل صدر قرار وزارى بتقرير مجانية التعليم فى العام 1944 لطلاب التعليم الابتدائى، وكان هذا أول الغيث…منذ أن أن أُلغيت المجانية فى أواخر القرن التاسع عشر، زمن الاحتلال البريطانى.
وحتى نتأكد من أن القضية كانت شغلا شاغلا لطه حسين، فلنقرأ معا حديثه مع مندوب جريدة ( المصرى )عندما استطلع رأيه ( 21/12/1942 )، فى مسألة التوسع فى مجانية التعليم ، كمقدمة تمهيدية لتقريرها، قال : ” أرى أن هذه الزيادة طبيعية لأن الحاجة إليها محققة ولم يكن ينتظر من وزارة كالوزارة القائمة ( وزارة الوفد ) إلا هذا، فمن طبيعة الديموقراطية الصحيحة أن تيسر للشعب أموره كلها ولا سيما ما يتصل منها بالتعليم … ولست أخفى عليك أن نسبة المجانية حتى بعد هذا التوسع ما زالت ضئيلة ” .

وفى صحيفة المصرى ( 26/6/1943 ) تغطية لحفل أقامته جمعية المعلمين فى دار مدرسة الهندسة التطبيقية بالعباسية ( كلية الهندسة بجامعة عين شمس الآن ) تكريما لوزير المعارف : أحمد نجيب الهلالى، وحضر رئيس الوفد، مصطفى النحاس هذا الحفل، الذى ألقى فيه مفكرنا كلمة، جاء فيها: ” لأول مرة فى تاريخ التعليم المصرى ألغى الفقر كعقبة فى سبيل التعليم ، فلم يقل للفقراء لا تتعلموا وإنما قيل للفقراء تعلموا، ومن استطاع منكم أن يدفع أجر التعليم فليفعل، ومن لم يستطع منكم أن يدفع أجر التعليم فليفعل، ومن لم يستطع فأجره على الدولة .

ولأول مرة فى تاريخ التعليم المصرى لم تستطع مدرسة أميرية ولا مدرسة حرة ( خاصة ) ولا معهد من معاهد التعليم أن يرد طالبا عن الامتحان لأنه عجز عن دفع المصروفات أو قصر عن دفعها ” .


وبطبيعة الحال، فنحن لا نستطيع أن نتفق مع مفكرنا فى قوله بأن تمتع الطالب بمجانية التعليم الذى تم ” لأول مرة فى تاريخ التعليم المصرى”، حيث كان طوال عمره، إلى مجئ الاحتلال البريطانى عام 1882، مجانيا.


أما مجانية التعليم الثانوى التى تمت عام 1950، فقد حدث أن باحثا، فى أوائل الثمانينات كان يعد رسالة ماجستير عن دور الأحزاب ( السابقة على ثورة يوليو ) فى التعليم، تحت إشرافى، وهو الآن أ.د عبد اللطيف محمود أستاذ أصول التربية بتربية حلوان، وكان مما وجهته إليه أن يقوم باستطلاع رأى قيادات الأحزاب الذين كانو على قيد الحياة، فلما برز اسم فؤاد سراج الدين، طلبت أن أحضر المقابلة مع تلميذى، فكان مما ذكره سراج الدين

أن طه حسين لما فوتح فى أن يكون وزيرا للمعارف بعد فوز الوفد فى انتخابات البرلمان أواخر عام 1949، اشترط أن يتضمن التشكيل ما يؤكد مجانية التعليم الثانوى، وأشار سراج الدين لنا أنه تعهد بدوره بتوفير الاعتمادات المالية اللازمة لتقرير المجانية، حيث كان مسئولا، بعض الوقت- عن وزارة المالية.


وعلى الرغم من سياسة الملك فاروق، فإن طه حسين لم يعدل عن فلسفته وسياسته، وبذلك اكتمل شوط كبير على طريق ديموقراطية التعليم، فقد جاء فى خطاب العرش الذى ألقته الوزارة الجديدة على لسان رئيسها مصطفى النحاس أمام البرلمان فى 16يناير 1950: ” وترى حكومتى أن خير الوسائل لرفع مستوى الشعب وتمكينه من الحياة الخصبة المنتجة التى تنفعه وتنفع الناس وتحفظ على الوطن مكانته بين الأمم المتحضرة الراقية، إنما هو تعليم أبنائه، وتثقيف نفوسهم وتزكية عقولهم، وتهذيب أخلاقهم، وتزويدهم بكل الوسائل التى تتيح لهم الجهاد فى سبيل الرقى والتقدم، ولذلك فهى لن تبخل بأى جهد لنشر التعليم وتيسيره والتوسع فى نظام المجانية الشاملة، تحقيقا لتكافوء الفرص لجميع المواطنين دون تفريق، وقد قررت فعلا المجانية الكاملة للتعليم الابتدائى والثانوى والفنى من اليوم”.


ومن هنا فعندما سأل مندوب صحيفة النداء ( 28/2/1950 ) طه حسين عن رأيه فيما نشر من أن بعض المدارس قد طردت طلبة لتأخيرهم فى دفع المصروفات، فقال : ” كل مدرسة يطرد منها طالب بسبب المصروفات يطرد ناظرها فورا لأنه خالف أمرا صريحا لوزير المعارف لأن المجانية التزام التزمت به الحكومة الشعبية أمام البرلمان، وهو لذلك واجب التنفيذ ” .


ولما اقترب العام الثالث للوزارة ( يناير عام 1952) واستعدت لإعداد خطاب العرش، طلب مفكرنا أن تتغير سياسة التعليم الجامعى فتقرر فيها المجانية على ألا تقبل الجامعات من أصحاب الشهادة الثانوية إلا القادرين( علميا) حقا على أن ينتفعوا بما يلقى فيها من التعليم: ” ولكن القصر وقف فى سبيل هذه المجانية الجامعية فحال بينها وبين أن تذكر فى خطاب العرش وحال بينها وبين أن تصبح أمرا واقعا”.

والغريب أن وزير المعارف كان متفقا على ذلك مع الجامعات الثلاث ( القاهرة وعين شمس والإسكندرية ) ” .
واعترف طه حسين بأنه لم يستطيع أن يمد مظلة المجانية أبعد من التعليم الثانوى، وروى فى سياق آخر أمر هذا، فى حديث إلى صحيفة الأخبار، أنه عندما عرض أن يتضمن آخر خطاب عرش فى عهد آخر وزارة للوفد تقريرا لمجانية التعليم الجامعى، وجد زملاء له من الوزراء مترددين، ولما تقصى الأمر تبين له أن الملك أبدى عدم ارتياحه من سياسة نشر العلم بين طبقات الأمة وقال : ” إن طه حسين يريد أن يقلبها شيوعية ‍‍‍‍” .


وإذا كانت مجانية التعليم العالى لم تتقرر إلا عام 1962، إلا أننا يجب أن نعلم أن كل من كان يحصل على أكثر من 60% فى الثانوية العامة( التوجيهية)، كان يُعفى من المصروفات الجامعية، ويستمر فى هذا إذا حافظ على تقدير لا يقل عن جيد، وهو ما تمتع به جيلنا الجامعى فى الخمسينيات والحمد لله.

طه حسين

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

قومى استنيرى

كمال زاخر رغم الصورة الشوهاء التى نراها فى دوائر الحياة الروحية، والمادية ايضاً، بين صفوفنا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.