الجمعة , نوفمبر 22 2024
الكنيسة القبطية
نانا جاورجيوس

الحياة من فوق سرير بروكرستوس

أسطورة «سرير بروكرستوس – Procrustes» من ميثولوجيا الإغريق القديمة لآلهة جبل أوليمبوس، وهو ابن الإله «بوسيدون» وملخصها أن حَداداً يونانياً يُدعى «بوليبيمون» يعمل قاطع طريق، و نكبة سريره الحديدي الذي صنعه ليتصيد المسافرين والمارة من عابري الطريق، ليجبرهم أن يناموا عليه ليقيس طولهم فيتم قولبتهم، فإن كانوا أطول من سريره قام بتقطيع أطرافهم وقصقصة الزوائد منهم ليتناسب طولهم مع طول سريره، وإن كانوا من قصيري القامة قام بمطهم بالقوة ولو أدى لخلع عظامهم وتكسير مفاصلهم.

وفي كلتا الحالتين لا ينجو أحداً فالهلاك والرعب و ويلات العذاب والموت هو مصير كل من ينام فوقه.

تحضُرني هذه الأسطورة التي لم تأتِ محض خرافة، فالإنسان لا يتخيل حتى الخرافات إلا بما يعرفه ويدركه بفكره وحواسه. لتذكرني هذه الأسطورة أن لكل ثقافة ولكل عقلية سريرها الخاص، الذي لا يتورعون أن يروا أنفسهم أوصاء اليقينيات،و حُرّاس للحقيقة المطلقة بل وكلاء عليها! إنهم «البروكرستسيون الجُدد » الذين لو أتيحت لهم الفرصة لفرضوا سريرهم على كل عابري السبيل، ممن يوقعه حظهم العاثر في طريقهم أو يعترض مصالحهم أو يمر من أمام بواباتهم الجهنمية !.

حتى أن دول الغرب التي تتغنى بالحريات والديمقراطية لديها سريرها الخاص، رغم أن شعوبهم يتمتع أغلبيتهم بقبول الأخر وقبول ثقافته وعِرقه ودينه أكثر من شعوبنا التي تربت على القهر والعنف، والنتيجة هي أن العنف لا يولِّد إلا الأعنف منه حتى وصلنا للحقبة الداعشية التي تمارس يومياً في أبسط يومياتنا الحياتية .

– منذ فجر التاريخ عرفت البشرية آلاف السفاحين وسافكي الدماء الذين قطّعوا ضحاياهم حد طهيهم وأكل لحومهم . عرفت البشرية هذا العنف المطلق منذ القدم حين كانوا- حسب معتقداتهم- يذبحون أولادهم ويقدمونهم قرابين لأوثانهم، مذابح نيرون وحرق كل معالم روما، مذابح تركيا في حق الأرمن، مذابح هتلر في الهولوكوست وفاشية موسوليني و وحشية ستالين، كلها أعراض وحشية ناتجة عن مرض جنون العظمة، حتى وصلنا اليوم لظاهرة دعشنة الإنسانية التي توغلت في أدق تفاصيل حياتنا اليومية وأصبح القتل ممارسة على الهواء مباشرة .

بروكرستوس مازال يعيش فينا وبيننا وعلى أطراف عقولنا نستحضره بتلقائية في المواقف ويتصدر المشهد والأحداث، يستمتع بسريره الملعون ويقيم فوقه أفراحه على بؤس الناس وشقائهم وعلينا أن نتقولب ونتقوقع

و نتأقلم فوق سريره الإعجازي لا أقصر ولا أطول وإلا…! ويابخت من صارت أحلامه بمقاس وسادته التي ربما لا تتحمل أكثر من أحلام العصافير.

صار هذا السرير رمزاً للفكر المتحجر، الذي يُنمِّط الناس بعملية تنميط تبرمج عقولهم بالفكرة الجاهزة سلفاً التي يعطي الإنسان نفسه الحق أن يفرضها قسرياً ليلتزم بها الأخرين لأنه يخشى إعمالهم لفكرهم، فهو يرى نفسه الحق والحقيقة المطلقة الوحيدة.

هذا الفكر الديكتاتوري هو ما تتبعه دول أو جماعة أو تنظيم أو قبيلة، وهو ما نراه اليوم على أرض واقعنا سواء على المستوى السياسي أو الإجتماعي أو أي تشكيل أو عقيدة .

فالأنظمة وحتى المتقدمة منها لا تفرض نفسها بالمنطق وقوة الحجج، بل فوق دماء الضحايا والأبرياء الذين إما يقتلون أو يودعون قيد سجونهم.

فكل عقيدة لها مقصلتها وأيدلوجياتها الشرسة ولو كانت بدايتها عبارة عن تمهيداً على الورق، فهي حين تنضج تصبح قابلة للخروج لحيِّز التنفيذ فتُثمر فظاعة وعنف مطلق لأقصى مداه حين تنفجر جرثومتها في أي لحظة.

فنرى اليوم الحرق وقطع الرؤوس والمجازر الوحشية من الظلاميين ضد إنسانيتنا بل ضد الحياة ذاتها. فالمتطرف هو المحرك الحقيقي للتاريخ بل هو من يملكون كتابته وتزييفه.

والبروكرستية هي« نزعة القولبة الجبرية التعسفية» على الأشخاص أو الأفكار وتشويه المعطيات لتتناسب قسرياً مع فكر مهترئ أو حكم لمخطط مسبق، بدعوى المساواة بين البشر أو تطابق الفكر بطريقة تعسفية.

وهذا هو سوء فهم لمفهوم المساواة، فالبشر ليسوا متساويين من جميع الوجوه، وبكل ما يحمله سرير بروكرستوس من تصنع وقتل للحقيقة لتضيع الحقائق!

فالأغريق و هم مصدر لهذه الأسطورة هم أيضاً مصدراً لمفهوم الديمقراطية التي هم أول من طبقوها ، وكان« دستور صولون» للمشرع والمؤسس الأول للديمقراطية «صولون» أحد الحكماء الإغريق السبعة الذي سن قوانينه بعد الحرب الأهلية للفقراء ضد طبقة المُلاّك، والذي مهد بقوانينه لقيام « النظام الأثيني الديمقراطي» و بداية «حكم الشعب» والشعب هنا تعني كل فئات المجتمع بالمساواة التامة بينهم في جميع أوجههم وفئاتهم.

وهذا مستحيل، أن يتم التساوي حد التطابق بهذه الفرضية الساذجة ! ربما المساواة تكون عادلة حين يتساوى الجميع أمام القانون والحقوق والواجبات السياسية وتكافؤ فرص العيش والتي يحتاج إليها الإنسان في كل عصر حتى الآن.
ويبقى السؤال هل يجوز تطبيق الديمقراطية بمجتمع ما بدون تفرقة، ليأخذ الأقلية والمضطهدين حقوقهم كما الأغلبية، أم أن الديمقراطية تتحكم فيها الأنظمة السياسية وليست كما تبدو حكم الشعب للشعب؟!

ديمقراطية أثينا، إقتصرت على فئة واحدة وهي رُبع أو نصف ذكور المجتمع الأثيني من الذين لهم حق التصويت بدون فئات المرأة والأطفال والشيوخ، وفي هذا ، صوتهم وحده كان يمثل الأغلبية رغم أنهم ليسوا كل المجتمع.

ومفكري العالم والفلاسفة عبر العصور أثبتوا إستحالة تطبيق تلك الديمقراطية بمفهومها العام التي تبدو فيها العدالة بثوب المساواة، لأنها في جميع الأحوال ستخدم فئة الأغلبية وتتجاهل الفئات المهمشة والأقليات المضطهدة، فالقوي يرفض أن يأخذ الضعيف حقوقه بل يعمل دائماً على إخراجه لدائرة النسيان ليسقط القوي من حساباته الشخصية ومصالحه كل حقوق الضعيف .


فمفهوم ومعيار الديمقراطية ليست في عملية تشريع تلك القوانين في حد ذاتها، بل ممارسة المجتمع نفسه من الداخل لهذه الأفكار والمبادئ قبل تشريعها و التي يحترم ويحمي بها الأقوياء حقوق من أُنتزعت عنهم حقوقهم بقسوة وتخلّي.

فالديمقراطية الحقيقية ممارسة فعلية وليست تطبيق يفرض بمقياس واحد على الجميع.

ومن فوق سرير بروكرستوس هذا وما فعله في الشعوب عبر تاريخ دامي لإنسانيتنا، أتذكر هنا أبيات العقاد عن موازين العدالة:
إنا نريد إذا ما الظلم حاق بنا … عدلَ الأناسيَّ لا عدلَ الموازين
عدلُ الموازين ظلم حين تنصبها … على المساواة بين الحرّ والدون
ما فرَّقت كفة الميزان أو عدلتْ … بين الحليَّ وأحجار الطواحين

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

قومى استنيرى

كمال زاخر رغم الصورة الشوهاء التى نراها فى دوائر الحياة الروحية، والمادية ايضاً، بين صفوفنا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.