سافرت مجددا إلى “الغرق” الأسبوع الماضي، لم يقع في نفسي منها أي شيء جديد غير الشفقة. تقع الغرق في منطقة على هامش الصحراء في أقصى جنوب منخفض الفيوم فيما بينها وبين النيل عند محافظة بني سويف. يقولون إن الهولنديين خلقوا أرضهم لأنهم انتزعوها من البحر ويمكنك أن تقول إن أهل الغرق خلقوا أرضهم لأنهم انتزعوها من مستنقعات موسمية وحجارة صفراء صماء لا تصلح لزرع أو لضرع.
على خريطة الحملة الفرنسية قبل 220 سنة تبدو الغرق بحيرة موسمية يتم فيها تصريف مياه الفيضان من بحر يوسف حتى لا تغرق الأراضي الزراعية حين كان النيل حرا طليقا وحينما كان عدد سكان مصر عدة ملايين قليلة.
يتوارث الجغرافيون والمؤرخون اسم “الغرق السلطاني” منذ عدة قرون، في إشارة إلى أن مياه النيل كانت تصل إلى هذا المنخفض الصغير في جنوب الفيوم وقت الفيضان العالي فتصبح معها التربة صالحة للزراعة، ولأنه لم تكن الأرض ملكا لأحد فإن ريع الغرق كان يذهب للسلطان أو الحكومة.
في قاموسه الجغرافي الذي تم جمعه في عام 1945 بحث محمد رمزي عن أصل الكلمة فتوصل إلى أنها كانت تسمى “غرق عجلان” نسبة إلى قبائل “بني عجلان” التي نزلت المنطقة آنذاك.
ولكن المنطقة في الحقيقة أبعد بكثير من هذه القبائل ونسبتها لظاهرة جغرافية مرتبطة بفيضان النيل العالي أقدم بمئات السنين.
اليوم في عام 2022 تشعر أن اسم الغرق يحمل معنى مخالف تماما ولكنه ما زال اسما بليغا، هذه المرة لا تغرق المنطقة في فيضان النيل بل في تأخر تنموي وحاجة إلى معجزة اقتصادية لانتشالها من واقعها المتخلف ولا سيما في الحالة الصحية لكثير من السكان الذين يعيشون في أوضاع متأخرة كما هو الحال في قرى وعزب: الغرق، الحجر، الجراي، الخمسين ، الخمسين المستجدة، عنك، عزية مينا، عزبة جلول، و عزبة زكي.
وغيرها كثير إذا زرت الغرق هذه الأيام ستجد في بعض هذه القرى جهود لمد أعمدة كهرباء وبداية شق ممرات لشبكة صرف صحي ضمن مشروع حياة كريمة، وهو مشروع تأخر عقودا طويلة، كما انه في حاجة لأن يسير بمعدلات أسرع من حركته البطيئة حاليا.
صحيح أن هناك بداية من جهود الدولة، ومحاولات من المؤسسات المجتمعية التي تعمل تحت اشراف الدولة لكن هذه الجهود بمفردها قد لا تحقق خطة إنقاذ حقيقية، ولابد من مساندة من المتطوعين، والجمعيات الخيرية الأهلية في المدن الغنية مثل القاهرة ( أفقر حي في القاهرة أفضل من هذه العزب والقرى)، ولابد أيضا من دعم الجهود الفردية التطوعية لانتشال الغرق من تعثرها في مشكلات التأخر التنموي وضعف الرعاية الطبية، وشدة وطأة الفقر.