مختار محمود
من لم يمتْ غبطةً/ يمتْ هرمًا/ للموتِ كأسٌ والمرءُ ذائقُها.
يتوحَّشُ الموتُ أحيانًا كثيرةً، فينتزعُ منْ بينِنا، وعلى حينِ غفلةٍ، الأتقياءَ والأنقياءَ والنُبلاءَ، الذين يبذلونَ الخيرَ وينفعونَ الناسَ، ويتجاهلُ نفاياتٍ بشريةً، إثمُها أكبرُ منْ نفعِها، ورحيلُها أفضلُ من حياتِها، فنندهشُ ونستنكرُ ونغضبُ ونتساءلُ: كيفَ ولماذا؟ ولكنْ لا يجبُ أن تندهشَ وتستنكرَ وتتساءلَ، فـ”ليسَ لكَ منْ الأمرِ شئٌ”، و”إنَّكَ ميِّتٌ وإنَّهم ميِّتونَ”، و”لكلِّ أجلٍ كتابٌ”، و” كلُّ منْ عليها فانٍ”.
الموتُ باختصارٍ: “أنتَ هنا.. أنتَ لمْ تعُدْ هنا”، ولا ضيرَ أنْ يموتَ أحدُنا، طفلًا أو شابًا أو كهلًا، فالشمسُ والقمرُ لا يخسفانِ لموتِ أحدٍ أو حياتِه، الكونُ كلُّه إلى زوالٍ.
حتى ســليمانُ ما تمّ الخلودُ له/ والريحُ تخدمُه والبدو والحضرُ/ دانتْ له الأرضُ والأجنادُ تحرسُه/ فزاره الموتُ لا عينُ ولا أثرُ.
ليس للموتِ “كتالوج”.
أنا شخصيًا.. أبغضُ الموتَ بُغضًا شديدًا، ربما التقينا مرتينِ أو ثلاثًا عَرَضَا، فصدَّ عنى وصددتُ عنه، ولكنْ، بكلِّ أسفٍ، لا بدَّ منْ لقاءٍ عاجلٍ أو آجلٍ، ينقلُنى خلالَه منْ عالمِ الفناءِ إلى عالمِ البقاءِ.
لا تركنـنَ إلـى الدنيـا ومـا فيهـا/ فالمـوتُ لا شـكَّ يُفنينـا ويُفنيهـا/ لكل نفـس وإن كانـتْ علـى وجـلٍ/ مـن المنـيـةِ آمــالٌ تقويـهـا. قلبى يذرفُ دمًا عندما أرى تابوتًا يحمل بين جنبيه منْ كانَ بيننا حيَّا منذُ ساعاتٍ قليلةٍ، ولكنْ سرعانَ ما أتذكرُ قولَ القائلِ: كلُّ ابنِ آدمَ وإنْ طالتْ سلامتُه يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ.
المؤلمُ.. إننا لا نتدبرُ ولا نعتبرُ.
نصطنعُ في مواكبِ الجنائزِ والعزاءِ دموعًا تُشبهُ دموعَ التماسيحِ، ونرتدى أقنعةً بلاستيكية، ثمَّ يعودُ كلٌّ منا إلى سيرتِه الأولى.
ليسَ كلُّ الموتى يستحقونَ البُكاءَ والحُزنَ والوجعَ، لكنه حدثُ الموتِ نفسُه وجبروتُه وقوته المُحطمة لكل التوقعات والمخالفة لكل الكتالوجات.
كم من صحيحٍ باتَ للموت آمنـًا/ أتته المنايا بغتةً بعد ما هـجـع/ فلم يستطع إذ جاءه الموت بغـتةً/ فراراً ولا منه بحيلةٍ امـتـنـع.
لو كان للموتِ كتالوج، ما احترقَ أربعةُ صغارٍ داخلَ مسكنهم، ولا غرقَ صِبيةٌ فقراءٌ في جوف النيل، ولا مات ابن الخطاب مقتولاً، ولا ابن أبي طالب مطعونًا، ولما تم التمثيلُ بذي النورين، ولما تمَّ إعدامُ الحسن والحُسين..رضي الله عنهم جميعًا.. هو الموتُ مـا مـنـه ملاذٌ ومهربُ/ مـتى حط ذا عن نـعـشه ذاك يركب/ نـؤمل آمـالاً ونـرجو نـتـاجها/ وعـلَّ الـردى مما نـرجـيه أقـربُ.
كفى بالموتِ واعظًا يا “عُمرُ”، ولكنهم لا يتعظون يا “عُمرُ”، بل يشمتون وكأنهم هم الخالدونَ المُخلدونَ.
“إنها لا تعمى الأبصارُ ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدورِ”.
كلُّ الأحبَّةِ يرتحلونَ، ولكن تخلدُ ذكراهم، و”وذكرُ الفتى بعد رحيلِه عُمْرٌ ثانٍ”، أمّا غربانُ البشرِ، فلا دورَ لهم إلا النعيقُ فوقَ أطلالَ الحياةِ..