الأربعاء , نوفمبر 13 2024
بطريرك القسطنطينية

نفي بطريرك القسطنطينية إلى الواحات الخارجة !

تعود هذه الواقعة إلى ما يقرب من 1600 سنة، حين وقع تصدع مذهبي في القرن الخامس الميلادي، ذلك القرن الذي يسميه علماء التاريخ المسيحي قرن الشقاق العقائدي.

ففي سنة 431 م أصدر الإمبراطور الروماني حكما على البطريرك “نسطور” بالنفي إلى الصحراء المصرية.

ووقع الاختيار على الواحات الخارجة.

تعود أسباب خلع البطريرك نسطور من منصبه الرفيع ونفيه إلى الواحات إلى خلاف عقائدي تفصيلي متعلق بتفسير طبيعة السيد المسيح.

فقبل 1600 سنة كان التيار المترسخ بقيادة كنيسة الإسكندرية المصرية يرى أن الطبيعة البشرية والإلهية متجسدة في المسيح، لكن زعيما دينيا اسمه “نسطور” ظهر من كنيسة أنطاكية في سوريا ليفصل بين الطبيعتين ويقول إن السيدة مريم هي “أم المسيح” وليست “أم الإله” وأن كلمة الرب نزلت على المسيح الإنسان فاجتمعتا معا في حياته لتشكيل طبيعة واحدة ثم افترقتا عند صلبه.

لم يكن نسطور يعلن كثيرا عن هذه الأفكار خارج كنيسة أنطاكية ذات الأثر الإقليمي، لكن ما إن ترقى نسطور إلى منصب بطريرك كنيسة القسطنطينية العظمى إلا وبدأ يبشر بأفكاره ويجمع الأتباع فاشتعلت أزمة عقائدية كبرى.

لقد رأت كنيسة الإسكندرية بقيادة البابا كيرلس آنذاك أن نسطور هذا مهرطقا وأخذت تحذر الإمبراطور الروماني إلى خطورة ما يقوم به، فاستجاب الإمبراطور وأمر بعقد مجمع ديني في مدينة أفسس شمال سوريا (في تركيا حاليا) للمناظرة بين الفريقين التي انتصر فيه البطريرك كيرلس بابا الإسكندرية وصدر الحكم على نسطور بالنفي إلى الصحراء.

لدينا في الواحات الخارجة أهم أطلال مسيحية منسوبة إلى نسطور الذي جاء هنا بأتباعه وأقاموا مستعمرة نفي قرب بعض عيون المياه وتركوا فيها أقبية ومقابر وكنائس. ونظرا لأن تصميم هذه المساكن والمقابر والكنائس استجاب لبيئة الصحراء فقد اتخذ تصميمهم المعماري شكل “القبو” على سبيل تبديد أشعة الشمس الملتهبة (التقنية التي ستكون من ملهمات المعماري حسن فتحي).

ومن ثم فإن بيوت ومقابر وكنائس هؤلاء النساطرة ستعرف في العصر العربي باسم “القبوات” ثم تحرف عبر الزمن إلى “البقوات” ثم إلى “البجوات” والواقعة اليوم شمال معبد “هيبس” في مدينة الخارجة عاصمة محافظة الوادي الجديد حاليا.

“البجوات” إذن شاهد عيان على واقعة نفي “نسطور” قبل 1600 سنة الذي مات هنا في المنفى وصار على أثره بعض من أتباعه وأسسوا هذه المستعمرة.

أتباع المذهب النسطوري الذين سيعرفون بالنساطرة كانوا قد تفرقوا مبعثرين في كافة أرجاء الإمبراطورية الرومانية ولا سيما في سوريا والعراق وفارس.

تعرضت معظم قبوات هذه المستعمرة المسيحية في الواحات الخارجة للتدهور، وخلافا لبقية الأديرة المصرية المنتشرة عبر الصحاري المصرية والتي لقيت عناية واهتماما يبدو أن الخلاف العقائدي ووجود هذه الفرقة المسيحية على أرض ومنطقة نفوذ كنيسة الإسكندرية قد حكم عليها بالأفول لأنها مثلت لدى مجموع الكنائس المصرية تيارا مهرطقا.

ورغم مرور كل تلك القرون ما تزال هذه القبوات (البجوات) تقاوم الفناء إلا قليلا وتقاوم غزو الكثبان الرملية التي تتفرد بها وتلعب فيها كل ملعب دون حاجز أو حماية كافية.

ومن بين عشرات الكنائس الصغيرة التي كانت تضم رسومات فنية لعقيدة هؤلاء النساطرة لم تبق سوى كنيسة واحدة أغلقتها هيئة الآثار لحماية آخر أثر باق منها.

تقع مستعمرة البجوات شمال الواحات الخارجة عند مفترق طريقك إلى الواحات الداخلة او إلى أسيوط من عمق الصحراء.

تقع البجوات عند أقدام جبل الطير الذي تحلق فوقه الطيور دوما ويذكرك مشهده المهيب بدير العذراء مريم بجبل الطير في المنيا، وبالأحرى تقع البجوات فوق تل خفيض اسمه جبل “طروان” الذي اصبح اسمه علما جيولوجيا في كل خرائط مصر على هذا النوع من الصخور الجامعة بين الحجر الجيري والمارل البحري.

تقع البجوات بجوار أطلال قرية كانت عامرة بالزروع والنخيل تدهورت هي الأخرى اسمها “البليدة”.

لو سافرت إلى الواحات الخارجة ذات يوم..لا يفوتك زيارة “البجوات” ففيها أثر فريد من تاريخ جغرافي، وديني، وسياسي، وبها آخر أنفاس حدث يمر عليه الآن بالتمام والكمال 1590 سنة.

الدكتور عاطف معتمد

شاهد أيضاً

نعم للتنوير

بقلم مينا عماد من المحتمل ان نشهد في الأيام القادمة توسع ، وتغيير لكثير من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.