قبل عامين وحين كنت أترجم إلى العربية مع اثنين من زملائي كتابا قوامه 500 صفحة عن تاريخ شعوب الصحراء الشرقية (العبابدة والبشارين) استعرت من محرر الكتاب في لغتة الأًصلية عبارة قالها حين كان يراجع الفصول الثلاثين التي ألفها مشاركون من تخصصات متكاملة في التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والآثار.
يقول المحرر إنه يؤمن بمبدأ شهير عنوانه “اقتل أحباءك” وهو قول مستعار من أحد الأدباء الغربيين الذي رسخ قبل عقود طويلة فكرة أن النصوص التي يكتبها المؤلف غالية عزيزة وحبيبة على قلب صاحبها لكنها لا تصلح كلها بالضرورة للتقديم إلى القارئ، ولابد إذن أن يتولى المؤلف مهمة “قتل أحبائه” بنفسه بدلا من أن يمارس عملية القتل هذه محرر ومراجع غريب فيصبح المشهد مؤلما ! تقوم الفكرة على أن النص الذي يقدمه المؤلف للقارئ يجب أن يكون مركزا في غير غموض، واضحا في غير تطويل، مكثفا في غير التباس.
وهذه عملية أقرب إلى شغل “الصنايعية” المحترفين، وبدهي أنها عملية مكتسبة من عمل سنوات طويلة تتولد منها الخبرة.
وقد حضرتني هذه الفكرة مجددا وأنا أطالع المجموعة القصصية “بالصدفة والمواعيد” التي ألفها للتو المترجم المصري المبدع حسام فخر ، صاحب السيرة المهنية العريقة والذي شغل فيها منصب مدير قسم الترجمة في الأمم المتحدة لسنوات طويلة مضت، وكان رمزا مشرفا لبلادنا.
في واحدة من قصص هذه المجموعة يستحضر حسام فخر نصيحة قالها له صلاح جاهين: “الكاتب جواهرجي!”.
عبارة جاهين المدهشة تبين كيف يجب أن يتعامل الكاتب مع نصه بكل دقة، ربما يكتب عشر صفحات لكنه لا يقدم سوى عصارتها في صفحة واحدة وربما فقرة أو فقرتين.
ولعل جاهين كان يعيد ترجمة عنوان رفاعة الطهطاوي الشهير “تخليص الإبريز” بمعنى استخلاص حبيبات الذهب الدقيقة من بين أطنان من الخامات والصخور.
ويحضرني هنا حوار أجراه أحد الصحفيين، غاب اسمه عني الآن، مع الأديب المصري العظيم توفيق الحكيم الذي اشتهر عنه ورويت طرائف عديدة عن بخله الملحوظ، حتى لقد أسماه بعضهم “الأديب البخيل”.
وحين تجرأ الصحفى ووجه له هذه الاتهام، كانت إجابة الحكيم مدهشة أيضا حين قال له “البخل صفة مهمة جدا للكاتب..ألا ترى أن الكاتب المبدع هو ذلك الذي لا يضع أية كلمة إلا في موضعها، هل رأيت أديبا ناجحا يسرف في النص ويبدي كرما غير مرغوب في الكلمات؟ في المجموعة القصصة “بالصدفة والمواعيد” يروي لنا حسام فخر كيف أنه جلب من موسكو هدية ثمينة إلى أحد الموسيقيين العظماء في مصر في سبعينيات القرن العشرين .
كان هذا الموسيقار المصري العظيم متلهفا للغاية على اسطوانات الموسيقار السوفيتي الملهم لكل العالم “شوستاكوفيتش”.
ولا يجب أن يختلط عليك الاسم هنا مع موسيقار سوفيتي عظيم آخر اسمه “تشايكوفيسكي”.
جلب حسام فخر اسطوانات دميتري شوستاكوفيتش إلى موسيقار مصر العظيم لأن الموسيقى السوفيتية – كما الأدب والسينما – كانت ملهمة لنا في كل شيء.
حين نقرأ الصفحات الروسية أو الإنجليزية عن موسيقى شوستاكوفيتش سنجد أنها وثيقة الصلة أيضا بفكرة الجواهرجي لأن ذلك الفنان الروسي المبدع كان يؤمن بفكرة “التقابل الموسيقي” التي كتبت عنها ذات مرة حين كنت أشير إلى إسهام إدوارد سعيد في المصطلحات الجغرافية بصكه مصطلح “جغرافية التقابل الموسيقي”.
كان سعيد ينتقد نظرية الاستشراق من خلال تأكيده على أن الثقافات والحضارات تتكامل، وكل منها يؤدي دوره كما تؤدي كل آلة دورها المتكامل في المعزوفة الحضارية الكبرى..لا فضل لآلة على آلة.
لم يكن شوستاكوفيتش يعطي للجمل الموسيقية والألحان والعزف المنفرد إلا المساحة المخصصة التي لا يجب أن تزيد أو تقل حتى تفسح المكان لعزف آلة أخرى ودخول جملة جديدة، تماما كما يفعل الجواهرجي وهو ينسق الصفوف والحبات ويجري – تحت عدسة التكبير – أنامله في الحفر الغائر والنقش البارز بحساب وقدر معلوم.
وحتى أطبق ما جاء في السطور السابقة من التوقف في الوقت المناسب…..سأتوقف هنا .