كتبت الشهر الماضي عرضا لترجمة الجغرافي الرائد “محمد عوض” لرائعة جوته “فاوست”.
وقد عرجت على الاستلهام الروسي في رواية بولجاكوف “المعلم ومرجريتا” والتي تحولت لفيلم ناجح في شكل مسلسل من عدة حلقات.
وقد اقترح أحد القراء الأعزاء أن أراجع أحدث نسخة مصرية ظهرت عن الفكرة في مسلسل “ونوس”.
ساعدني أحد طلابي الأعزاء بتحميل الحلقات الثلاثين التي أذيعت في عام 2016. وشاهدتها متتابعة.
وبعد مشاهدة المسلسل المدهش، بريادة العبقري يحيى الفخراني مجسدا دور الشيطان، وجدت نفسي أراجع أعمالا قديمة لتجارب سابقة في السينما المصرية رأيت منها من الأقدم للأحدث: “موعد مع إبليس” و”المرأة التي غلبت الشيطان” و”الإنس والجن”.
الرجوع إلى الخلف مع أولى الأعمال في فيلم “موعد مع ابليس” الذي أذيع في 1955 يعطينا فكرة عن مقدار التواضع في إمكانات وأفكار تلك الفترة المبكرة.
ويجعلنا نرى صراع الشيطان مع الإنسان في حالة أقرب إلى ظروف خاصة لأحد الأطباء الذي يقدم الخير للفقراء ولا يجد من الله عونا فيشعر بالسخط على الناس ويسلم نفسه للشيطان.
في فيلم المرأة التي غلبت الشيطان (إنتاج عام 1973) نجد أنفسنا أمام مشكلة طبقة معينة من المجتمع المصري وهي طبقة أهل الفن والصحفيين مع محفز لحبكة فنية من خلال مصير بائس لخادمة دميمة تسلم نفسها للشيطان كي ترتقي طبقيا وتنتقم من الأثرياء الذين يحتقرونها.
في فيلم “الإنس والجن” من إنتاج عام 1985 نجد أنفسنا اليوم (بمعايير الوعي في عام 2021) أمام فيلم متواضع في الحبكة والإقناع وإن كان يعتمد على نجومية عادل امام، مع افتقار تام لأهمية الحوار أو الجدال أو الفلسفة أو التدبر والتفكير.
مسلسل “ونوس” إذن هو التطور الأعظم للفكرة التي بدأت مع ترجمة فاوست على يد الجغرافي محمد عوض ومراجعة طه حسين في مطلع القرن العشرين ثم جرى الاقتباس منها في السينما بأشكال متعددة.
يمكن اعتبار “ونوس” معبرا عن زمنه بجدارة للأسباب التالية
الشيطان الذي أمامنا هو شخصية مصرية بامتياز، واحد من بيننا، بكل خفة الدم المصرية والحركات البهلوانية والنكات والقفشات، والأفكار التي نراها كل يوم.
الشيطان هنا محبوب لنا جدا، بل نكاد نتعاطف معه ونتبنى قضيته، وهذه واحدة من خطورة وعبقرية اختيار يحي الفخراني لتجسيد الدور.
– لدينا هنا اختيار ذكي لاسم الشيطان، فهو ليس اسما متنكر مثل “نبيل” في موعد مع ابليس أو “جلال” في الإنس والجن أو “أدهم” في المرأة التي غلبت الشيطان، بل اسم معبر بشكل مدهش وبليغ.
ذلك لأن “ونوس” هو “أنيس” الإنسان” و”ونيسه” ورفيقه الذي لا يغيب عنه.
– تكمن التيمة الرئيسة في مسلسل ونوس في التفكك الأسري الذي يعيشه المجتمع المصري بشكل صادم في العقد الأخير.
كل أبطال المسلسل ذاقوا مرارة التفكك الأسري من أول حلقة حتى آخر حلقة. ونوس هنا يلعب لعبته التي كنا نعتبرها لعبة جاهلية تراثية من أن أعظم أعماله هي أن “يفرق بين المرء وزوجه” متفوقا على الموضوعات الساذجة القديمة ذات الخصوصية الفردية والحالات الاستثنائية.
– ينبع تميز ونوس مقارنة بالنسخ الأقدم من الأعمال السينمائية في عمق السيناريو والحوار، فالمسلسل هنا يعكس “بانوراما” المجتمع المصري أو فلنقل قدم لوحة من “الموزايك” في صراع الخير والشر في مجتمعنا.
من أول الخيانة الزوجية إلى تدليس الدعاة الجدد والاتجار بالدين.
– يتشابه ونوس مع غيره من الأعمال السابقة في إصراره غير المبرر على أن مرتع ابليس في الكباريهات وبيوت الليل وشرب الخمر ولعب القمار.
ولعله وقع في هذا الفخ عمدا ليلهب أبصار المشاهدين بالمناظر العارية للراقصات وبنات الليل (كان المسلسل يذاع في رمضان للمفارقة!).
– لكن في المقابل يحسب للمسلسل أنه ذهب إلى فضاءات مكانية غير متوقعة لتأثير الشيطان، كالمساجد والأضرحة والمقامات وبيوت الزهاد والعباد.
بل إن ونوس تجلي في شكل أحد أقطاب الصوفية لراهب عابد متبتل أو درويش ورع وتمكن من أن يزيغ بصره فقلب له الحق باطلا، في دلالة على مشكلة تصيب المتقين الورعين حين يداخلهم وسواس يقلب لهم إيمانهم سرابا وهم في قلب المحراب المقدس للعبادة.
ستظل قصة الإنسان والشيطان كما جاءت في الكتب المقدسة واستلهمها جوته في رائعته “فاوست” ميدانا خصبا للأعمال الأدبية والفنية دون نهاية على ما يبدو.
وكلما تقدمنا في الزمن تزداد شكوى ونوس من أن بني الإنسان أصبحوا أكثر مهارة منه في إغواء بعضهم بعضا وأكثر ذكاء في اختراع كل السبل التي لا تخطر على بال ونوس نفسه لغواية الإنسان وأصبحوا يقومون نيابة عنه بما لا يخطر على بال.
صحيح أن المستقبل القريب قد لا يشهد اختفاء مسمى الشيطان وإبليس من حياتنا بالكلية لكن على الأقل ستتلاشى مساحات اللوم والعتاب واتهام “ونوس”، ويزداد تحمل الإنسان لمسؤوليته في كل ما يحدث له من جراء “نفسه”. ولعل في ذلك خطوة عظيمة للتحرر من إلقاء التهمة على الآخرين والمبالغة في الوقوع في خانة الضحية التي قهرتها الغواية والخطيئة.
الإنسان يعرف نفسه في الحقيقة أكثر بكثير مما يعرفه “ونوس”.
نقلا عن صفحة الدكتور عاطف معتمد