في بقعة لا تتكرر من أرض مصر، حيث يلتقى الطين والماء والحياة من ناحية بالصحراء والموت والخلود من ناحية ثانية، شيد أحد ملوك مصر تمثالين يستقبلان القادم من نهر النيل إلى البر الغربي في الأقصر.
“البر الغربي” لغز نفسي وأثري وتاريخي كبير. بعض ممن يقفون هنا تنتابهم رهبة الموت وجلال الخلود.
والبعض الآخر يجد في المكان “روحا” للفناء وتطارده مشاعر انقباض النفس حين يمر بين مئات بل آلاف المقابر، عشرات منها ضمت رفات الملوك ومئات منها ضمت رفات الطبقات الأدنى في حاشية الحكم.
وفيما بين المنبهرين بعظمة الخلود، والمنقبضين من جغرافية الموت، يبقى “البر الغربي” أحد عناصر التفرد الجغرافي والتاريخ والأثري في العالم بأسره، دون أدنى مبالغة.
قرأ أحدهم تقريرا أجنبيا عن البر الغربي جاء فيه وصف المكان بأنه “نيكروبوليس Necropolis” فسارع في مكتبه المغلق في القاهرة بترجمة الكلمة إلى “جبانة”.
وحين حاول أحد المراجعين أن يصحح له الترجمة حولها من “جبانة” إلى نقل حرفي للكلمة من اللغة اليونانية فجاءت بالعربية “مدينة الموتى”.
“مدينة الموتى” ترجمة حرفية صحيحة لما يضمه البر الغربي في الأقصر من تراث الموت.
لكن إذا نزلت بقدميك، وتنقلت فيما لا يقل عن خمسة أيام وربما أسبوعا كاملا بين المجاميع الأثرية في المنطقة ستعرف أنك هنا فيما يمكن تسميته “فضاء مكاني لعالم الآخرة” أو أنك في مدينة كاملة مترامية الأطراف نُقرت في الجبل وشيدت من الصخر من أجل “تخليد حياة ما بعد الموت”.
يمكن اعتبار التمثالين اللذين يظهران في الصورة -التي أخذتها الأسبوع الماضي من الموقع الأثري- بمثابة مفتاح الدخول إلى هذا العالم المعقد من جغرافية عالم ما بعد الموت.
يحمل التمثالان اسم الملك “أمنحتب الثالث”.
يقول علماء الآثار إن اسم “أمنحتب” مؤلف من مقطعين” آمون” وهو اسم الإله المصري الشهير الذي يبالغ بعض الفلكلوريين بالقول بأنه اسم تسرب إلى المسيحية في كلمة “آمين” والتي تسربت بدورها في دعاء المسلمين في الصلاة والابتهال حين نقول “آمين” بمعنى اللهم استجب.
المقطع الثاني من اسم ملكنا هذا هو “حتب” وتعني “راض” أو “سعيد”.
أي أن الملك هنا يحمل اسم “آمون راضي” بمعنى أن الإله آمون كان يرعى ويرضى ويبارك أعمال هذا الملك.
استمر حكم هذا الملك نحو أربعة عقود وهي فترة طويلة للغاية يعتبرها علماء الآثار والتاريخ واحدة من أكثر فترات التاريخ المصري ازدهارا ومجدا (1388 ق. م وحتى 1350 ق.م).
لم يكن هذا الملك هو أول من حمل صفة رضاء آمون، فقد سبقه بنحو قرنين من الزمن ملك حمل اسم “أمنحتب الأول”، أما “أمنحتب الثاني” فقد جاء قبل ملكنا هذا بنحو قرن من الزمن.
أربعون سنة تقريبا في الحكم المزدهر أعطت لهذا الملك الشرعية ولمهندسيه وفنانيه الشجاعة والثقة والثروة لتخليد ذكراه بإقامة أعمال ضخمة تخلب الألباب وتتحدى الزمن، ومن بينها التمثالان العملاقان اللذان نراهما هنا في الصورة.
هنا يستقبل الملك كل القادمين من البر الشرقي، موليا وجهه نحوهم، وموليا ظهره إلى عالم الخلود الذي تمثله هنا الهضبة الجيرية من صحراء مصر الغربية.
لا يعرف الناس هذين التمثالين باسم “أمنحتب الثالث” بل تجده على ألسنة الصبية الصغار في الأقصر وفي كتب الإرشاد السياحي باسم “تمثال العملاق مِمنون The Colossi of Memnon”.
من أين جاءت كلمة مِمنون Memnon هذه؟ ولماذا لا نسميه باسمه الحقيقي “تمثالا أمنحتب الثالث”؟ وقبل أن نجيب على هذا التساؤل دعونا نتعرف على طبيعته.
لقد نقلت كتلته الصخرية الضخمة من محجر للحجر الرملي بالغ الصلابة صعب التشكيل من صحراء مصر الشرقية، يرجح البعض أنها قرب العاصمة القديمة “أون” أو هليوبوليس شمال شرق القاهرة حاليا.
وربما جاءت عبر النيل أيضا من موقع إلى الجنوب من طيبة في جنوب مصر أو شمال السودان دون أن يتوصل أحد إلى الموقع بدقة إلى الآن.
قد يرى علماء الجيولوجيا أن التمثال كتلة حجرية ضخمة من الحجر الرملي بالغ الصلابة ضارب إلى اللون الأحمر. لكن علماء الآثار يقولون إن اختيار اللون الأحمر هذا لم يكن مصادفة جيولوجية، فاللون يرمز هنا إلى وهج الشمس واهبة الحياة، حيث يتجلى قرص الشمس في كثير من معابد طيبة.
التمثالان اللذان شيدا هنا قبل أكثر من 3500 سنة صارا من المزارات السياحية لليونانيين والرومان مع وقوع مصر لحكم هاتين الحضارتين الغازيتين بعد عصر أمنحتب الثالث بأكثر من 1000 سنة.
تشير المصادر إلى أن التمثالين تعرضا لزلزال في عام 27 قبل الميلاد مما نجم عنه شقوق وفواصل في التمثالين، ولا سيما الواقع منهما على يمين الصورة.
ولمدة قرنين من الزمن كانت الظروف الجوية من رطوبة وحرارة مع الرياح الهابطة من الصحراء الغربية تمر عبر شقوق التمثالين فتصنع صفيرا في الصباح الباكر يبدو معهما وكان أمنحتب الثالث يخاطب العالم بلغة غير مفهومة.
هنا أطلقت المصادر اليونانية – التي تريد إعادة كل شيء إليها ونسبته لحضارتها – أن هذه الأصوات ليست سوى أصوات أنين “مِمنون” وهو يخرج أنفاسه الأخيرة مثخنا بجراحه بعد هزيمته في معركة طروادة.
كان مِمنون شخصية أسطورية إفريقية، وعلى الأرجح بطلا مغوارا من أبطال “إثيوبيا”.
لقد كتبتُ هنا في غير مرة أن إثيوبيا لا تعني في عهد اليونان اسم الدولة الشهيرة في منابع النيل حاليا بل مسمى يوناني على كل الشعوب ذوي البشرة السوداء بداية من جنوب مصر وحتى شرق إفريقيا.
ذلك لأن كلمة إثيوبيا” تعني في اليونانية “الذين حرقت وجوههم الشمس” أو باختصار “شعوب ذات وجه محروق”.
وفقا للأسطورة فإنه في حرب طروادة (1260 ق.م وحتى 1180 ق.م) كان مِمنون بطلا إثيوبيا خسر المعركة أمام البطل اليوناني الشهير أخيل (أخيليس).
لا يمكن لمثلي أن يلخص تفاصيل الأساطير اليونانية في سطرين هنا.
لكن الفكرة التي نحتاجها في المقال الحالي أن الكتابات اليونانية والرومانية أطلقت على هذين التمثالين اسم “مِمنون” بسبب الصفير الذي يصدره التمثال فيما يعيد إحياء الأسطورة التي انطلق فيها أنين البطل الإفريقي “مِمنون” حين خر صريعا في حرب طروادة.
قبل أكثر من 2000 سنة كان الزوار يأتون هنا فجرا مع شروق الشمس ليسمعوا صفير “أمنحتب الثالث” الذي تلبسته روح البطل الإفريقي “ممنون”.
وعد ذلك مجلبة للحظ السعيد.
وبعد نحو 200 سنة من هذه الطقوس لسماع صفير الأنين من تمثال أمنحتب الثالث أراد أحد الحكام الرومان ترميم التمثال المصري فتسبب الترميم في غلق شقوق وفواصل الزلزال السابق فتوقف “مِمنون” نهائيا عن الأنين واختفى صوته إلى الأبد.
ورغم أن التمثالين يرويان قصة مصرية خالصة لحكم ملك عمَّر طويلا، وشيد كثيرا، ورعى الفنون والهندسة لتخليد ذكراه، إلا أن كل كتب الإرشاد السياحي، والصبية الصغار الذين يبيعون التذكارات في الأقصر، وسائقي التاكسي، وقائدي الدراجات النارية، ومرشدي الوفود السياحية من الألمان والروس والفرنسيين والأمريكان والإسبان وغيرهم كلهم يروجون للتمثالين باسم “ممنون”.
في الختام لا بد أن أعترف أنني في كل مرة أزور فيها التمثالين، منذ أول زيارة في عام 1992 وحتى آخر زيارة في عام 2021 أشعر في كل مرة بأنني “ممنون” جدا.
من صفحة الدكتور عاطف معتمد