في سن الطفولة قبل عقود طويلة نشأت في أسرة فقيرة في حي متواضع على هامش الجغرافيا والتاريخ. في عالم الطفولة آنذاك لم تكن مصر كما هي عليه اليوم من وفرة الألوان الكرنفالية العامرة بكل ما هو مزركش ومبرقش من الحلويات والبونبون والشيكولاتة.
كان البقال الوحيد عند ناصية الشارع يبيع نوعا واحدا من قطع الحلوى التي كنا نسميها “أرواح”. منذ سنة الخامسة أو السادسة كنت أسأل نفسي عن معنى هذه الكلمة ذات الأثر العجيب.
تنزل الإجابة فورا حين تضع قطعة منها في فمك فتشعر بحلاوةٍ، وسكرٍ، ومتعةٍ تستعصي على الوصف.
كانت قطعة الحلوى توقظ حواس التذوق كأنها نسيم بارد في قيظ الصيف الذي عشنا فيه سنوات طويلة.
كانت “الأرواح” مكافأة لنا نحن الصغار.
لا أجد كلمات تصل بالمعنى إلى الجيل الحالي كي يقدروا أثر هذه الحلوى البسيطة وهم يعيشون اليوم وفرة المعروض ورخص الأسعار وإتاحة العرض حتى من دون طلب…ومن دون مذاق فريد أيضا.
كانت “الأرواح” برتقالية الطعم أو ليمونية اللون. بعض منها كان في شرائح صغيرة من فواكه مجففة مغلفة بالسكر. كان السكر شحيحا عزيزا في حياتنا قبل 40 أو 50 سنة.
كنا نحصل على مكافأة شراء “الأرواح” مرة كل أسبوع، وفي بعض أيام الوفرة والأعياد كنا نشتريها مرة كل يومين أو ثلاثة.مع تباشير الصبا والشباب أصابتني الدهشة لأن الفتاة التي استوت على عودها وراحت تتهادى بحسنها الممشوق في شارعنا كان اسمها “أرواح”.
بصعوبة عرفت أن أرواح في الحالتين هي جمع لكلمة “روح”. بعض الأشياء والناس ترد الروح الغائبة، كما يفعل بنا مذاق فريد، جمال فتان، مشهد منسق، حديث عذب، صفاء في صلاة أو سكينة.حين التحقت بالخدمة العسكرية أعدت تفسير كلمة الروح.
علمونا أن نستهل تقديم أنفسنا بعبارة “جندي مجند…”.
وهنا قفز إلى ذهني دون مقدمات حديث شريف يقول مطلعه “الأرواح جنود مجندة…”.
كيف تكون الأرواح جنودا مجندة في معرفة بعضها بعضا؟ والتقاء المتشابه منها ونفور المتناكر منها؟ ما علاقة الجندية بتلاقي الأراوح؟ يفترق الناس من الجندية وقد تعلموا أشياء كثيرة، يحبون بعضهم فيستمرون عقودا بعد الجندية أو ينفرون و يتباعدون.الجندية الحقة ليست تدريبات وتكدير، الجندية الحقة معركة ورفقة سلاح.
رفقاء السلاح يواجهون الموت معا، والنجاة معا، يعرفون الجوع سويا، يرون الدم القاني فيربطهم برباط مقدس، يواجهون الخوف يدا بيد، ويقابلون الأمل في النجاة معا.
الجندية الحقة شرف للعهد ودفاع عن أرض أو عرض…. أو فكرة (وما أخطر الفكرة!).
تمضى السنوات فتباعد بيني وبين أرواح الطفولة، أنظر حولي وفي نفسي فأرى أصدقاء افترقوا بعد 20 سنة، وأن زملاء مهنة أصبحوا أعداء بعد ربع قرن، يدهشني أكثر أن أزواجا عندهم أبناء اختاروا الطلاق بعد سنوات طويلة من الرباط الذي كان يجمع “الأرواح” وكأنها جنود مجندة.
ما الذي حدث؟هل انفضت المعركة؟ أم كانت المعركة أصلا وهمية؟ أم أن الجنود أصبحوا جنودا على غير اختيار منهم، جاءوا هنا على جبهة عاقرة لا تتولد منها روابط الأرواح؟ما أصعب الأسئلة السهلة. وما أجمل ذكريات الطفولة.