الجمعة , نوفمبر 8 2024
محمد سمير خواسك"

في بلاد العبابدة …أدب الجيولوجيا الوثائقي !

طلب مني أستاذنا الدكتور زكريا هميمي المشاركة بكلمة في تأبين عالم جيولوجيا جليل رحل عن دنيانا قبل أيام وهو الدكتور ” سمير محمد خواسك”.

شعرت بحرج حقيقي لأنني لم أقابل الأستاذ ولم أعمل معه ولم استمع إليه في ندوة أو محاضرة لأنني من جيل أحدث بالنسبة له.

وحتى أعوض هذا التقصير ذهبت إلى بعض مؤلفاته الموجهة للقارئ العام واخترت منها كتاب “في بلاد العبابدة”.

وضع الراحل الجليل هذا الكتاب قبل 60 سنة مضت، وبالتالي وجدتني اعتدل في جلستي لأنني مهتم للغاية بقبائل العبابدة من أهلنا في صحراء مصر الشرقية ليس فقط لأنني أحب أن أعمل في المناطق التي يسكنون فيها من النيل إلى البحر الأحمر بل زاد شغفي بهم بعد أن ترجمت بمشاركة ثلاثة من زملائي كتابين مهمين عن علاقة هذه القبائل بالبيئة والصحراء والاقتصاد، ويبلغ حجم الكتابين نحو ألف صفحة، وما زالا ينتظران الخروج إلى النور في دهاليز المركز القومي للترجمة منذ عدة سنوات.

وضع محمد سمير خواسك كتابه “في بلاد العبابدة” بطريقة مثالية في أدب الرحلات.

بدأ رحلته من محطة قطار الجيزة مرورا بالمنيا ووصولا إلى قنا ومن هناك بدأ رحلته مع أعضاء معسكر للبعثة الجيولوجية عبر وديان وجبال الصحراء الشرقية.

في الكتاب لغة راقية أنيقة، ومعلومات مهمة عن تاريخ التعدين في تلك الفترة من خروج مصر من العهد الملكي إلى الجمهوري، وطبيعة حياة الخيام في الصحراء، وأسماء الوديان وتفسير دلالتها.

من أهم موضوعات الصحراء التي ترد في الكتاب اهتمام المؤلف بتقييم “إيكولوجيا” الصحراء وخاصة العلاقة العضوية بين الإنسان والحيوان والماء والنبات.

لم يثقل المؤلف على القارئ بمعلومات جيولوجية صعبة عن أنواع الصخور وبنية وتركيب الأرض، لكنه لم يحرمه مع معرفة بعض المصطلحات مثل الإردواز والصخور البركانية، أو الجرانيت الحاوي لليورانيوم.

نقل لنا المؤلف بالكلمات والحروف طبيعة الحياة في معسكر البعثة الجيولوجية في “وادي عسل” و “وادي العطشان” فجعلنا نعيش معهم وبين خيامهم نستمع إلى شكواهم وضحكاتهم وصراعهم مع قلة المياه وانتشار الثعابين والعقارب.

سكان المعسكر من الجيولوجيين من القاهرة، والصعايدة، والعبابدة، فكان الموقع مزيجا ثقافيا مثيرا في صفحات هذا الكتاب.

أسلوب العرض جزل بليغ.

انظر مثلا حين يصف جلوس العبادي في خيمة رئيس البعثة فيقول إنه مثل كل العبابدة يحبون الصمت، ربما علمتهم الصحراء ذلك من صمتها الدائم وربما تدربوا على ذلك توفيرا للماء حتى لا يؤدي كثرة الكلام إلى الظمأ من دون مبرر.

نعرف في جلسات السمر الليلية بعد انتهاء يوم التنقيب الجيولوجي والتفجير بالديناميت لتكسير الصخور قصصا عن أفراد المعسكر، مثل “عبد الشافي” الذي التحق بالعمل بالمعسكر قادما من أبو طشت، ورجل من كبار قطاع الطرق في الصعيد تاب عن تاريخه السابق والتحق بالبعثة التي استفادت من خبرته الشجاعة ومعرفة أساليب الحماية والتكيف مع أخطار الصحراء.

ونعرف أيضا قصة حلاق جاء من القاهرة إلى القصير يتجول في الجبال يقص شعر الرجال في المحاجر والمناجم أو البدو في الصحراء وقت الأعياد والمواسم.

وقد احترف بالإضافة إلى ذلك كتابة خطابات للأهل والأحبة بين النيل والبحر الأحمر بسبب أسلوبه البديع الذي يجعل للكلام حلاوة وطلاوة.

نعرف أيضا قصة سائق البعثة الذي جاء من الوجه البحري وانضم هنا في عمق الصحراء لقيادة سيارة يتعامل معها كأنها محبوبته وقصة غرامه لدرجة أنه خلال أوقات الأجازات التي يعود فيها إلى بلده في الدلتا يرفض بغيرة جنونية أن يقود السيارة غيره من سائقي البعثة حتى لو هداه تفكيره إلى أن يعطلها فلا تتحرك في فترة غيابه.

بعد هذه الأجواء البانورامية للخيمة وأعضاء البعثة وما يواجهونه من أسباب السعادة والخطر يأخذنا المؤلف بعد 40 صفحة إلى أرض “العبابدة” فيعرفنا بموقعهم الجغرافي، وهيئة الشكل والجسم عند الرجل والمرأة، وما يتمتعان به خفة ورشاقة ونحافة وصحة البدن وقوة الإبصار.

يتناول المؤلف كيف كان يعرف العبابدة أخبار بعضهم بعضا من خلال “سعاة البريد” الذين يمثلهم الرعاة في الجبال، فكل راع مسئول عن توصيل الرسائل من أسرة إلى أسرة.

والرسائل هنا شفهية من قول إلى قول ومن شخص إلى شخص تطمئن الزوجات والأمهات عن الأزواج والأبناء في عمق الصحراء أو في وادي النيل والبحر الأحمر. ينقل سعاة البريد هؤلاء من الرعاة أخبار الزواج والمهور، وأخبار الوفيات.

ومن بين أخبار من ماتوا نعرف بعض قصص الصالحين الورعين الذين يتخذ العبابدة من مقاماتهم مواقع للزيارة تقديسا لسيرتهم الصالحة فيضعون على قبورهم رايات زاهية الألوان.

يحدثنا المؤلف (الراحل الجليل د.محمد سمير خواسك) عن حب العبابدة للحرية ويحمدون ربهم أنه لم يخلقهم في المدينة التي يعيش فيها أناس يستحقون الشفقة بسبب حرمانهم من الطبيعة وعظمتها.

في الكتاب وثيقة تاريخية مهمة عن حرية المرأة العبادية والثقة التي تتمتع بها بين قبيلتها ورؤيتها لخطيبها قبل الزواج أمام الأهل أو على انفراد في المرعى، دون أن تكون هناك مشكلات للخيانة.

يتمتع العبابدة بالثقة فيما بينهم ويعاقبون الخائن بالنفي من أرضهم.

لا يحرمنا خواسك في كتابه الفريد من نوادر العبابدة وتندرهم على لهجة أهل مصر من الصعيد والدلتا.

ولديهم أيضا قصص مثيرة عن الذين جاءوا إلى الصحراء طمعا في ذهب الفواخير وعملوا مع الخواجات الذين كانوا بدروهم ينهبون هذه الثروات خارج مصر.

في السنوات التي ألف فيها المؤلف كتابه كان اسم “اسرائيل” ساخنا في الصراع على فلسطين.

لم يكن العبابدة يعرفون شيئا أنذاك عن هذا الاسم ولا أهميه وخطورته ، وحين جاءت صور الرئيس عبد الناصر لتوضع خلف مكتب المأمور كان بعضهم يعتبرها صورة “والد المأمور” الذي وضعها خلفه اعتزازا بأبيه.

يتعجب العبابدة من أن إسرائيل تصنع مشكلة ويندهشون كيف لمصر ألا تسحقها ولديها كل هذه القوة.

ثم يسألون بوجل: هل يمكن لإسرائيل أن تصل إليهم هنا في عمق أرضهم في الصحراء؟ في هذا الكتاب يقترح المؤلف مشروعا للمسح الاجتماعي للعبابدة.

ويقول إن الباحثين في العلوم الاجتماعية ليس بوسعهم القيام بذلك لقسوة بيئة الصحراء وشظف العيش فيها.

وهنا يقترح خواسك أن تستضيف البعثات الجيولوجية فرق البحث الاجتماعي وتدلهم وتساعدهم على إجراء المسوح الاجتماعية عن سكان العبابدة وبقية قبائل الصحراء الشرقية لما لذلك من أهمية في اندماج نسيح المجتمع كله ووحدته وتضامنه.

في المقابل يروي لنا خواسك في كتابه الصادر قبل 60 عاما كيف يستقبل العبابدة أخبار أهل القاهرة والنساء العاريات على شواطئ البحر في الإسكندرية؟ وكيف ينظرون إلى ما يسمعونه من أخبار لا تصدق عن حياة تلك المدن.

يتناول الكتاب أيضا السبل التقليدية لصيد البر والبحر وتحنيط الحيوانات التي تم صيدها سواء من سمك القرش في البحر الأحمر أو من ثعالب الصحراء أو غزلان الوديان أو حتى اصطياد وتحنيط “الطريشة”: تلك الحية ذات القرنين بالغة الخطورة في الصحراء.

يحدثنا المؤلف عن مهارة العبابدة في فن اقتفاء الأثر لإنقاذ الضالين في الصحراء وهم على شفا الموت، بل وتتبع هجرة وانتقال القبيلة والعائلة ومعرفة هذه الهجرة بتمييز أقدام النساء والرجال والأطفال.

بشكل فلكوري بديع يتناول المؤلف أيضا سبل مكافحة مخاطر حيات الطريشة والعقارب السامة الخطرة في مجتمع ليس فيه أمصال ولا أطباء.

كل ما مضى يمثل الصفحات من 1 إلى 80، بقية الكتاب وحتى نهايته مواقف وعبر ودروس وحكايات من حياة الصحراء سواء عند العبابدة وفيما بينهم أو بين من جاءوا إلى الصحراء من غير أهلها طمعا في مواردها أو مغامرات للثراء السريع في التنقيب عن الذهب أو الحلم شبه المستحيل بالتنقيب عن اليورانيوم.

لو كان بيدي لأعدت طباعة هذا الكتاب في دار نشر حكومية لأنه يضم معلومات نعرفها هنا لأول مرة، بل معلومات لا يشملها الكتابان اللذان نقلناهما إلى العربية من تقارير البعثات الأجنبية رغم شمولهما للموضوعات الأثرية والبيئية عن حياة العبابدة والبشارين في صحراء مصر الشرقية.

ما يضمه كتاب الراحل الجليل محمد سمير خواسك هو وثيقة لحياة الصحراء وعلاقة العبابدة ببقية الأراضي المصرية في فترة انتقالية من الخروج من العهد الملكي والدخول إلى العهد الجمهوري.

منقول من صفحة الدكتور عاطف معتمد

فى بلاد العبابدة

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

صناعة الانحدار !!!

كمال زاخر الخميس ٧ نوفمبر ٢٠٢٤ من يحاربون البابا الحالى هم تلاميذ من حاربوا البابا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.