الأحد , ديسمبر 22 2024
نهر النيل
مركب فى نهر النيل

النيل نجاشى !

الدكتور عاطف معتمد

هذا عنوان أغنية قديمة لمحمد عبد الوهاب، الأغنية قليلة الكلمات متراقصة الألحان تبدأ بتمهيد لإيقاع موسيقي متسارع يسلم الساحة فجأة في صمت مقدس لصوت عبد الوهاب الذي يغرد منفردا في حالة من السلطنة الكاملة وهو ينطق كلمة “نجاااااشي”.

عرفنا كلمة نجاشي من هجرة المسلمين الأولى إلى ملك الحبشة الذي أشادت به المصادر الإسلامية ورأت فيه كريما وقورا متسامحا.

وصف النيل بالنجاشي هنا هو معرفة أصيلة بمعنى الكلمة في اللغة (الجعزية) أو الحبشية والتي تعني فيها الكلمة “حاكم أو “ملك”.

يدهشنا أن كلمات هذه الأغنية العامية من تأليف أمير الشعراء أحمد شوقي الذي تعلمنا منه شعر الفصحى الصعب البليغ. “النيل نجاشي” تعنى أن النيل ملك وحاكم وسلطان، ولك أن تعرف أي سلطان وملك حكيم هذا في مسيرته الطويلة من منبعه إلى مصبه.

يتغزل شوقي ويتسلطن عبد الوهاب بأن النيل يعزف لحنه ممسكا بـ “أرغوله” في يده.

للوهلة الأولى سنظن أن “أرغول” كلمة أوروبية من العهد الملكي زمن أشعار شوقي.

لكن الأرجح أن هذه الآلة هي نفسها الآلة المصرية القديمة التي بدأت بالناي المصنوع من البوص وتنتهي اليوم بالمزمار في الصعيد الذي ما زال العزف به ساريا إلى اليوم.

يشدو عبد الوهاب بأن النيل ينساب في أرضه ممسكا بأرغوله في يده عازفا اللحن الشهير.ما اللحن الذي يعزفه النيل النجاشي؟يجيبنا شوقي بأن النيل “يسبح لسيده”.

كلمة “سيد” هنا كلمة عبقرية، نعرف اليوم كلمة رب أو إله لكن سيد تعني في الأساس الرب المعبود أيضا، تماما كما نقرأ في التعبير المزدوج لكلمة “لورد Lord” والتي تحمل المعنيين الدنيوي والسماوي.

وهي نفسها الطريقة في معنى كلمة “جوسبود” في اللغة الروسية التي تعني سيد في الدنيا، وتعني أيضا سيد في السماء.

مع كلمات شوقي وأداء عبد الوهاب (المتسلطن بأجواء ملكية) نرى النيل النجاشي “حليوه واسمر” يمرح في أرض كلها “دهب ومرمر” في تعبير عن طبيعة الجيولوجيا التي يخترقها النيل من أراض عامرة بالذهب كما في شمال السودان وجنوب مصر وأراض أخرى بها من المرمر البديع.

من أين عرف شوقي وعبد الوهاب ما توصلت إليه الأبحاث الأثرية الحديثة من أن في وادي النيل شرق المنيا مثلا أروع المحاجر التي اخذت منها الأواني المرمرية لا سيما في منطقة “حاتنوب “؟ تلك المنطقة الواقعة في قلب الصحراء غير بعيد عن مدينة إخناتون في تل العمارنة.

في الشطر الثاني من أنشودة “النيل نجاشي” يأخذنا شوقي وعبد الوهاب في نزهة رومانسية بمركب مع فلايكي يشدو بصوت ملايكي فيطلب الشاعر أن يأخذه ريس المركب برفقة حبيبته في رحلة عبر النيل مخاطبا إياه بقوله: “صلح قلوعك يا ريس” صلح قلوعك ياريس عبارة تعني الكثير، تتجاوز التفسير الحرفي وتدعوك لسماع الأغنية مرات ومراتالسؤال اليوم: هل ما زال النيل “نجاشي”؟للحديث بقية !

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.