مختار محمود
رغم أنَّ هناك فريقًا يريد أن يختطف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الذي تحلُّ ذكرى وفاته التاسعة والأربعون اليومَ، بخبث مفضوح إلى معسكره المُعادى للإسلام، مُستغلاً شططًا فكريًا يشوب المحطات الأولى من حياة أى إنسان، إلا أنَّ العرب قديمًا قالت: إنما الأعمال بخواتيمها، ومن ثمَّ لا يجوز الحكمُ على المسيرة الفكرية والعلمية لعميد الأدب العربى بمنطق الاجتزاء، ونظرية “ويل للمصلين”؛ فهذا ينطوى على غُبن شديد لرجل موصوف بأنه من أعظم المدافعين عن الإسلام، وليس العكس! فى كتابه: “طه حسين..من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام”.. صحَّحَ الدكتور محمد عمارة – رحمه الله- كثيرًا من المعلومات المغلوطة بشأن الدكتور طه حسين، لا سيما فيما يتصل بالنصف الثانى من مسيرته الحافلة، وهى المرحلة التى يبدأ فيها الإنسان من التجرُّد من الأهواء والإغواء، ويتلمس فيها العقل شاطئ النجاة، ويقترب فيها من حد النضج والكمال.
كثيرون ممن يلوكون سيرة العميد ويتخذونها مطية لترويج بعض الأفكار والقناعات التى تراجع الرجل عنها فى خواتيم حياته، يعلمون أنهم ماكرون ومراوغون ومخادعون ويراهنون على “الأميَّة الثقافية” لقطاعات كبيرة من المصريين.
من أجل هذه الإشكالية تحديدًا.. شدد الدكتور محمد عمارة على أنه هدِفَ من كتابه إلى إنصاف طه حسين من أنصاره وخصومه جميعًا، وسحبِ البساط من تحت أقدام أسرى التغريب والعلمانيَّة والغزو الفِكري الذين يتمسَّحون بهالات العميد الذى نشأ وتربى فى أروقة الأزهر الشريف، كأنَّه يقول لهم: اتَّقوا الله قبل أن تَندموا؛ فهذا أستاذُكم عادَ ورجَع، فلا تنسبوا إليه شيئًا ممَّا رجَع عنه، وعودوا أنتم أيضًا قبل فوات الأوان. وصف “عمارة” الفترة بين عامى 1932 -1952 بأنها “مرحلة الإياب التدريجى” للعميد؛ وهى الفترة التى خلتْ فيها كتاباته من أيَّة إساءة إلى الإسلام، وتوجَّه خلالها إلى الكتابة في “الإسلاميَّات”، مثل: “هامش السِّيرة” بأجزائه الثلاثة، وأثبت فيها وعيًا حقيقيًا بالدين، ودعَا إلى إصلاح العقل بالمعجزة القرآنيَّة التي يفهمها العقلُ فلا يستطيعُ إنكارها، ويُكْبرها فلا يستطيع عليها تمردًا ولا طغيانًا. وخلال هذه الفترة أيضًا.. كتَب الكثيرَ من المقالات التي تُناقِض ما جاء في كتاب “الإسلام وأصول الحُكم” لعلى عبد الرازق، لا سيما أنه كان أكثر المدافعين عنه، وما جاء في مؤلفه الشخصى المثير للجدل: “مستقبل الثقافة في مصر”، وهما السِّفران اللَّذان يتغنَّى بهما أنصارُه ومريدوه والمتعصِّبون له، حتى أنه كتب فى مقاله المنشور بمجلة الهلال، فى العام 1940: “فالدِّين الإسلامي كان وسيكون دائمًا أساسَ الحياة الخُلقية للأمَّة الإسلاميَّة، وقد كان في عصر طويل أساسَ الحياة السياسيَّة والعلميَّة لهذه الأمة أيضًا، وهو الآن وسيكون دائمًا أساسًا لهذه الحياة السياسيَّة والعلميَّة إلى حدٍّ بعيد”.
وفى المرحلة الأخيرة من حياته الفكرية التى انطلقت –بحسب “عمارة”- من العام 1952، والتى اعتبرها الكاتب: “مرحلة الإياب الفِكري الصريح والحاسم إلى أحضان العروبة والإسلام”، أظهر العميد تحولاً لا تخطئه العيون نحو العروبة والإسلام، ومن أبرز هذه التحولات: تأكيدُه على حاكميَّة القرآن، والانتقال من الفِرعونيَّة إلى العروبة التي صاغَها الإسلام، وثناؤه على العلماء المجدِّدين، وزيارته للأراضى المقدسة فى العام1955. وعندما طلَب زيارة المسجد النبوي، وكان الطريق البري مُغلَّقًا لأجل السيول، أصرَّ على الذهاب ولو بالطائرة، رغم أنه كان لا يركب الطائرة أبدًا، وعندما طلب منه رفيقُه أمين الخولي أن يؤجِّل الزيارة قال له: “لن أغفرَ ذلك لنفسي أبدًا”. وقال عند الزيارة للمسجد النبوي: “صليتُ في المسجد النبوي، وشعرتُ بسمو رُوحي، ووددتُ أنْ لا أبرحَ المسجد، أتابع صلاة الظهر بصلاة العَصر، فلا أُريد غِذاءً ولا طعامًا ولا شرابًا”، وبعدها.. وضع كِتابه: “مرآة الإسلام” فى العام 1959، الذي كشف فيه عن ألوانٍ من إعجاز النظم القرآني، وبعده بعام أنجز كتابه: “الشيخان”. وينوِّه الدكتور محمد عمارة فى نهاية كتابه إلى أن الدكتور طه حسن أوصى أن يُحفَر على قبره الذي دُفن فيه هذا دعاءً نبويًا كان أثيرًا إلى قلبه، قريبًا من لسانه وهو: “اللهمَّ لك الحمد، أنت نور السَّموات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمد، أنت قيُّوم السموات والأرض، ولك الحمد، أنت ربُّ السموات والأرض ومن فيهنَّ، أنت الحقُّ، ووعدك الحقُّ، والجَنَّة حقٌّ، والنار حقٌّ، والساعة حقٌّ، والنبيُّون حقٌّ، اللهمَّ لك أسلمتُ، وعليك توكلتُ، وبك آمنتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي لا إله إلَّا أنتَ”.. وأخيرًا.. فإن هذا هو طه حسين بجميع تحولاته الفكرية والثقافية التي جعلت منه مفكرًا وأديبًا عالي المقام ورفيع القدر وأسطورة إنسانية استثنائية، رحمه الله رحمة واسعة.