الأحد , ديسمبر 22 2024
ماجدة سيدهم

ثورة “ريش “

( قراءة عن فيلم “ريش” )

الفيلم رواية لتجسيد فكرة جديدة ومختلفة وتجسيد الفكرة أمر ليس بهين.. فالأدوات هنا تختلف تماما عن الأفلام التقليدية والمعتادة فهي من دون أيه حوار.. سواها بضعة كلمات أو جمل قصيرة فقط .. لكن سياق وتصاعد الأحداث تدفعك لتتتبع عما تسفر عنه تلك المشاهد من نهاية مرضية أو ربما غير متوقعة ..

فالصوت والحركة والنظرة والسكوت واللون وزوايا الكاميرا ومساحات الكادر وانعكاسات الصورة والضوء هي الأدوات التى استخدمها المخرج والتى لا يتمكن من إجادة توظيفها سوى من أمتلك رؤية فكرية وفلسفية للعمل تتمثل في إلهامات وقدرات إبداعية متميزة ..

وسرد الحكاية هي لأسرة تماهت في القهر والفقر والتهميش ويزداد الأمر سوء حين يتحول الأب فجأة إلى دجاجة في لعبة قام بها ساحر أحضره الأب في عيد ميلاد ابنه .. ولما فشلت كل المحاولات لإعادته إنسانا مرة أخرى بدأت رحلة الزوجة في مواجهة هذا المصير الغامض ومواجهة نفسها المجتمع بمفردها .. لتتحمل مسؤولية حماية ورعاية ٣من الصغار (بينهم رضيع ) وأيضا رعاية زوجها الدجاجة..

تأخذنا الأحداث في إيقاع حركي أبلغ من كل الكلام لنشاهد الزوجة في سياق تلك المشاهد مابين استلام الانذارات المتكررة عن إيجار متأخر ..غسل الملابس المتهرئة ونشرها في حمام البيت المصاب بالذبول حيث جدران السيراميك التى تحمل جرأة مهينة من ملامح بقع الغياب

المحاولات المستمرة لعلاج الدجاجة لإستعادة الزوج مستنزفة كل مايتوفر لها من مال منهكة الجهد مع صغارها في التنقل مابين خرافات السحرة و توصياتهم (ممنوع البيض والدجاج) وإطعام زوجها الدجاجة فوق سرير نومهما الشاحب بالعدم ومابين علاجات العيادة البيطرية

أيضا نشاهدها في مطالباتها المستمرة بحق زوجها في راتبه الشهري فليس لديها أية مال سوى الالتزام الذي يطاردها لتسديد الإيجار المتأخر عليها حتى لاتفقد مكانها وتتخلى عنها أيضا تلك الجدران الباقية .. نشاهد نزولها المضطر للعمل متنقلة بين أعمال متعددة كعاملة بالبيوت أو في مخزن بسيط للأدوات الصحية

رفضها العنيد والعزيز للإستغلال لمجرد كونها إمرأة وحيدة ومعوزة .. رفض إدارة المصنع عملها محل زوجها نظرا لطبيعة العمل القاسية (ممنوع عمل الستات ) فتلجأ لإبنها الصغير للعمل محل أبيه …

يتصاعد محور الرواية في هذا المزيج من القهر الصامت والحلم الفائر والرفض الشامخ والقوة في المواجهة التي تظهر بوضوح في عمق نظرات البطلة التي يشوبها الانكسار في كل هذا السرد الصامت للحكاية وكل هذا الجهد الدؤوب دونما الاعتماد على أحد سوى إرادتها وتحديها ومثابرتها في ترقب وشيك لتغير تتمناه و تنتظره يحدث للأفضل..

فهي بالحق إمراة مقاومة ..حرة .. يبدو هذا رائعا في مشهد بالغ الأهمية حين حاول أحدهم تقديم بعض الدعم لتسترد التلفاز الذي تم التحفظ عليه لعدم مقدرتها بتسديد بعض من المتأخر عليها في محاولة منه لاستغلالها متحرشا لتقوم بدفعه وطرحه أرضا بكل ثقة وصلابة .

أنصرفت تحمل التلفاز (المتعة الوحيدة والحلم والأمل الجميل ) من أجل صغارها من دون صرخة واحدة أو ارتباك في توقع لرد الفعل ..بل ونفهم أيضا من الأحداث أنها راحت تشتكيه لصاحب العمل حين تجمهر بعض العمال بضربه وهي ترقب مشهد الثأر لنفسها فلم تترك حقا لها متاحا في الحياة.

ويستمر تصاعد الأحداث المتلاحقة والمتصارعة لتحدث المفاجأة غير المتوقعة حين تتعرف الزوجة على زوجها أشبه بالجثة الهامدة ..شريدا .. شبة محترقا .. فاقدا للوعي والنطق ..فقد تم العثور عليه ضمن بعض المفقودين والمشردين ..لتبدأ في رحلة متجددة من العناية به بلا كلل فقد عاد الزوج (حلاقة الشعر الأشعث والكثيف .. مداواة الجروح والقروح الشديدة ..إطعامه واستحمامه بالصابون ..إزالة الكثير من الاتساخ المتراكم والقشور العنيدة ..جلوسه على الكرسي المتحرك )..

هنا أدركت الحقيقة الصادمة وهي خرافة الزوج السابق ..الدجاجة ..ليرقد الزوج الحقيقي في فراشه.. بهدوء تكرر محاولاتها المستميتة ليستعيد الزوج الوعي والأدراك والنطق (انطق ..اتكلم) دونما أدنى استجابه منه ليبقى هو الجسد الهامد والمثخن بالقروح والغياب ..

تفقد كل القدرة على تحمل هذا العبء الجديد مع تعذر استكمال العلاج أو نقله لمشفي ما .. وببنما نرى الصغير في أدق المشاهد وجعا ويصعب التعبير عنه ..يصرخ بحرقة ملتصقا بأبيه ..هو بكاء العتاب الشديد..بكاء اللوم و الإفتقاد والحب والإحتياج الشديد.هو الصغير الذي متى شعر بالذنب حين فقد أبيه في عيد ميلاده فيقوم بتمزيق الزينات المعلقة .. نجدها هي وقد أدركت بيقين ماسببه الزوج والأب لها وللأطفال من ألم عظيم ومتاعب شرسة.. فتقرر أن تصنع هي التغيير فلن تنظر بعد المعجزة ..

تثور لتتخلص من هذا العبء الثقيل بلا أدنى أمل ..وفي مشهد عبقري تمد يدها بهدوء لترفع جدا مؤشر الصوت للتلفاز على موسيقا رائعة متجه بخطوات ثابته إلى غرفة النوم حيث الزوج بلا حراك ..تضغط الوسادة لخمد النفس الأخير مع تصاعد الموسيقا ، تلتقط الدجاجة ، تغسل يديها من أثر الدماء بعد ذبحها ، تعود لتحرك مؤشر الصوت حتى أدناه في مشهد من أقوى المشاهد وأبرعها على الإطلاق .. هو ذروة التألق والإبداع الفائق ..هو نص شعري مذهل او لوحة تجريدية تليق بالعالمية

* للتوضيح ..ربما أدركت الزوجة أن هروب الزوج وتخليه عن مسؤولياته كان بإتفاق مسبق مع الساحر .

ليتركها بمفردها في مواجهة قسوة الظروف والعوز والمجتمع .. بينما انصرف هو لحال سبيله ولم تجد تفسيرا مقنعا لغيابه لذا تقبلت عن جهل خرافة الدجاجة حتى تم العثور عليه مرة أخرى …حينها تيقنت من خداعه لها ولأطفاله وتخليه عنهم ..وربما أيضا لم يشغلها أية تفسير لعودته بهذا الحال المزري بقدر الغضب فيما تحملته من مرارات كان هو المتسبب فيها ..

على أيه حال أي تفسيرات الآن لاتهم بقدر فهم أنها ما تحررت وثارت حين تخلصت من الزوج بخمد أنفاسه لكنها تحررت تماما حين ذبحت الدجاجة .. فهي الدجاجة التى تمثل لها الخديعة والقهر والفشل والجهل والعجز واستزاف الجهد والوقت بلا أمل

لذا رفضت أن تسامحه عن فترة انسحابه المتعمد ليزيد بعودته العبيء عليها وجعا ..لتكون هي صانعة القرار والتغيير ..

هنا فقط تجلس إلى الطاولة كمنتصرة حين أدركت أنها تستطيع .. تجلس بلمحة ارتياح على ملامح الروح الراضية .. محتضنة صغارها في طعام جيد يأكلونه بينما يغلف المشهد متابعة التلفاز بشغف مع أغنية “الصبحية” تعلن عن بداية الأمل من جديد :اضحك يانهار فتحي ياورود غني ياعصافير على نسمة حرير..الصبح يادوبك بيشأشا والليل أهو راح وبقينا صباح.سامعين الدنيا بتغني أحلى الألحان مزيكا جنان أهو راح امبارح اهلا بيك يانهار ياجديد .. وببنما ينتهي الفيلم تبدأ الحياة بشكل أخر و مكان آخر للسعادة ..انتهى الفيلم ومازالت الأغنية تملأ الأجواء ..!

على الهامش

قد يبدو الفيلم يحكي قصة كفاح عادية أو معاناة البطلة في المعيشة القاسية والبحث عن عمل لكن في حقيقية الأمر الفيلم يشير إلى ثورة إمراة ..ثورة تفور بداخلها

وقد يبدو أيضا للمشاهد رتابة في الأداء بلا انفعال من الزوجة أشبه بحالة مملة من التسليم فبدت كمفعول به في مهب الأقدار .. ولكنها رؤية فنية فلسفية قصدها المخرج لتخرج بهذا الشكل بينما الرفض يفور في أعماقها يعززه تلك الموسيقات الواضحة والأغنيات المبهجة والمصاحبة للكثير من المشاهد ( سواح .تملي معاك على وش القمر فايزة أحمد جورج وسوف..فيروز .وغيرها . ويعززه ايضا خطواتها الجادة المستقيمة .

فهي تعرف طريقها ..لاتقبل المساومة وبدا هذا في لون القميص الأبيض والجونلة السوداء قد يبدو هذا غير منطقيا للمتلقي لكنه يؤكد على أنها لم تفقد حلمها الحي في الخلاص للأفضل رغم بلادة بعض المحيطين وشح المال ووحشة المكان..

فعلت ثورتها على المجتمع الذي يرى فيها توفر كل مقومات الابتزاز والرضوخ والتجاهل لذا تقرر النزول إلى مجتمع الرجال متحدية بحثا عن عمل وبالفعل تعمل ..

ثورنها على الجهل والخرافة كموروث مجتمعي حين تخلصت من عبء وأذي وتسلط الرجل سواء كان حقيقيا أو وهما

ثورتها على الفقر بالحرص على استمرارها في العمل المتاح لها مهما تنقلت بين أمكنة عديدة *ثورتها على الانتظار والخوف من المبادرة فاتخذت هي القرار لتصنع بنفسها البداية من جديد ..*لا شك ان الفيلم يقدم عملا روائيا مختلفا تماما وجديدا على السينما المصرية وعلى جمهور من الناس التى اعتادت القصة التقليدية والنهايات السعيدة لذا بدا الفيلم غامضا أو غير منطقيا وغير مقبول بل ومرفوضا من البعض لكنه بالفعل يتميز بلغة سينمائية فائقة ومتميزة كما في في السينما العالمية التي تمتلك قوة الرمز والبعد الأعمق للصمت وترجمة لكل تفاصيل المكان والحوار الطاعن ببلاغة في النظرة والإدراك التام لفهم إيقاع الحركة ولما هو أبعد من السكات الذي تلخص في “ريش” في كلمتين عبقريتين متضادتين (ماعرفش في بدايات الفيلم وكلمة انطق، اتكلم في نهايات الفيلم )

* وللتوضيح رغم ان البطلةا كانت صادقة جدا في الرد على من يسألها بكلمة “معرفش” إلا أن مع نهاية الفيلم نتأكد أنه وفي قرارة نفسها هي تعرف ماذا تريد وتمتلك قرارها حينما يحين الوقت فقد اهدرت وقتا ونزفت أعصابا وضعت لهما حدا مع كلمة “انطق.. اتكلم ” *, ورغم مؤامرة الشقاء والتعب المتعب .. ورغم طاعتها المؤقتة من بدايات الفيلم فتبدو منحنية الرأس أمام زوجها بلا نطق سوى كلمة ( ماشي حاضر )

ورضوخها المؤقت أيضا لسوء الأقدار.. ورغم كسرة ما لكنها لم تكن تمتلك قلبا كئيبا أو روحا خاملة أو هزيلة .

بل كانت تمتلك قوة الإيمان بالحلم فلم تترك البؤس واليأس يفتك بها وبصغارها ويبدو هذا واضحا في استغلال كل المتاح من فرص لتعيش مع أسرتها أوقاتا سعيدة في إعدادها لحفل عيد الميلاد لطفلها وتشغيل الأغاني المفرحة ..تركيب الزينة البسيطة .. صب الشربات في الأكواب.. ويوم أن اتحيت لها فرصة عمل أصرت ألا تعود لصغارها من دون أن تبتاع لهما قطعتين من الجاتوه لإسعادهما.إذن هي بداخلها ليست بالمرأة الضعيفة أو المهزومة أو المنقادة تحت دهس العوز

يلعب الصوت دورا بارعا حتى يقظة الوحشة .. بداية من صوت الزوجة المليء بالقوة والبساطة وأيضا مثل صوت فتح الدولاب المعدني الصديء ..فتح حصالة معدنية محطمة ..عد الأوراق المالية والمعدنية ..صوت تلميع وارتداء الحذاء..الغسالة اليدوية..عصر الملابس ..احتكاك الأكواب بالطاولة .. نفخ البلونات ..غلق الشباك والباب.. صوت الأبخرة المتصاعدة من المصنع ..صوت قلي في زيت مغلي .

غسل أواني المطبخ ..بكاء .. مضغ الطعام ..صوت السرعة لسيارة لحتى تدرك مثلا وأنت مغمص العينين أن صوت غلق باب السيارة هي لسيارة متهالكة ..

كان من الافضل يكون صوت الأغنيات داخل الفيلم منخفضا أكثر ليعطي مدلولا اوقع للمشهد

قدمت الإضاءة الشاحبة بلون الغبار الأصفر وانعكاس ضوء المغيب على الجدران المتألمة بدكنة البرتقالي قدرا هائلا من المعاناة التى لاتوحي بوقت معين سوى تشابة الزمن بكل رتابة ودون أي توقع في تغيير يحدث رغم حركة وتصاعد الأحداث ..

رغم حيز المكان المتسع بالفراغ الموحش بمنطقة المصنع حيث يقطن البيت المفروم بالتعب إلا أن هذا الحيز مليء بالتفاعل والحركة التى تصنعها الزوجة في بحثها المستمر عن الأفضل ..

من ابرع اللقطات للزوجة وهي تسند رأسها بميل على الجدار مع ضوءخارجي ساقط بضعف على زاوية من ملامح التعب والوجه المائل وبنظرة واهنة إلى الفراغ أو إلى مدى السؤال .. هي تجسيد للتهالك واليأس والأمل معا ..تصفيق حاد عمر زهيري ..

من المشاهد التى تؤكد أن خيط الفكرة في قبضة مخرج لا يستهان به.. على سبيل المثال في مشهد من الخلف البعيد للأم منحنية لتنظيف أرض المنزل الذي تعمل فيه بينما لايظهر في الكادر سوى مساحة صغيرة من الأرضية خالية تماما من أي أثاث وكلب قريب منها

( قد تسال ماذا يعني وجود كلب في هذا المشهد ؟ ) لكن بعد مرور وقت من الأحداث المختلفة والمتلاحقة نراه هو ذات الكلب الذي لحق بها متى أخذت او سرفت بعض بقايا الطعام لجوع الأطفال ..

الفيلم يصعب التعبير عنه بالقلم فللمتابعة البصرية وقع آخر أعمق ..وظالم هو الحكم عليه من مشاهدة لمرة واحدة ..إذ يعتمد على اللقطات القصيرة الموجهة كنص شعري لايبيح التصريح المباشر للمعنى غير أنه كرمز أو كرؤية فلسفية يلخص الكثير من الاسهاب الممل صائبا العمق بكل ذكاء ..

في الأخير دميانة نصار أداء تلقائي عفوي كمخضرمة من أول لقطة في أول ظهور لها أمام الكاميرا من دون رهبة أو ارتباك أو تلعثم في الأداء ..أداء فاهم وإحساس واعي .

روعة الإيمان بالرمز والاختلاف والتميز كانت للمخرج عمر زهيري في مثابرته حتى يلتقط ذكاء الملامح اللي استطاعت تحول” ريش” من مجرد فكرة ذهنية لسرد رؤية غير معتادة لكنها غنية بالعمق والمتعة و إثارة الذهن

برافو بحق الأطفال الصغار اللي أدوا أدوراهم الصغيرة بعفوية رائعة وفلحت ببراعة ..*شكرا لكل من شارك حتى لو في مشهد واحد.. فكم كنم رائعيين ..*شكر وتقدير مهرجان “كان” للسينما العالمية *شكرا “ريش “

المجد للسينما ..!

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.