للكاتبة إيناس المغربي
حكت والدموع تملأ عينيها .. قصت والآهات تمزق جنبيها .. يوم عُرسي خلق الربيع ..رُسم الجمال ..أضاءت السماء .. اخضرت الجنان ..صدحت الأطيار ..غنى القمري ..هفهف النسيم بحب ملأ الأرض و السماء ..!! حَلُمتُ به وتمنيتُهُ وجاد الزمان كما لم يجد من قبل، وحقق لي ما تمنيته و رجوته .. !! كان يوم عُرسي يوما غير عادي ، بدأ بالنسائم الطيبة وإيقاعات المزمار والدُف ورقص الحصان الذي استعلاه فارس وسيم احترف التبختر به، والرقص عليه، وكانت الكلمات ممتلئة بالطرب والضحك .. و إحساس بنسمات طيبة تأتي من الجو ترفرف حولنا متحيرة كأنما تتساءل : أهذه حديقة خُلقت بطيور إنسانية، أم شجرة ورد من الجنة يتفيأ ظلها ويتنسم شذاها حور العين ..؟؟!! اما عن منصة العرس فافتنوا في صنعها وتهيئتها كعرش لملك وملكة.. أقيمت في صدر البهو نُصَّ عليه كرسيان يتوهج لون الذهب فوقهما عندما تسقط عليه أضواء المصابيح المحيطة به .. وقد رُصعت منصة العُرس بالورد الأحمر والأبيض، وقد نُسقت الأزهار في سمائه وحواشيه كأنه عُش طائر ملكي من طيور الجنة سُقيت وروده وأزهاره من نهر الكوثر . بدأ العرس وانتهى وكأننا عروسان زفا إلى الجنان ، وأحاطت بنا ملائكة الأرض والسماء !! عشت معه أجمل أيام العمر لم ينادني يوما إلا ب يا حبيبة القلب .. يا خليلة الروح .. يا منية النفس .. !! كان شديد الحب لي، كثير الوله بجمالي واهتمامي به وبي .. !! ولم يكن مني إلا مبادلته نفس المشاعر الطيبة والعاطفة الممزوجة بالرحمة والود والحنان !! لم يمنعنا ضيق الرزق من التمتع بالمودة والحب، عشنا بما جاد الزمان به علينا ونحن راضين سعداء .. !! رزقنا بأبنة جميلة كالزهرة البيضاء وكأن البديع أفتن في خلقها وتجميلها، سعدنا بها أيما سعادة ومع قدومها المبارك زاد رزق أبيها، واتسعت تجارته عما ذي قبل ،ثم رزقنا بالثانية والثالثة، مما أدى لزيادة الأعباء، وما كان من أبيها إلا أن يعمل أكثر وأكثر، واتجه إلى التوسع في تجارته أكثر وأكثر مما أدي إلى خروجه والتغيب عن عشنا الهادئ الجميل كثيرا .. !! لا أُنكر عليكم أن كان لزوجي حظ ليدخل في جملة المجدودين المحظوظين في تجارته وزاد ماله، وفي المقابل زاد غيابه وقل حضوره، وماعدت آنس بقربه وسُلاف كلامه .. !! ثم تنفست بصعوبة نفساً ثقيلا وأردفت قائلة : لم يكتف ببناته الثلاثة حامدا لله نعمه، بل طالبني بولي العهد الذي يحمل اسمه ويرث ماله، فما كان مني إلا الخضوع والإذعان لأمنيته وتحقيق رغبته. ولكن لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن وجاءت الأبنة الرابعة .
تغير حاله واشتد انفعاله وكلما رآني أشاح بوجهه بعيدا مستنكفا مشمئزا ،وكأني سبب حرمانه من أمنيته اللحوحة. مضت الأيام وهو واجم حزين وكأن قُتلت ذؤابته بين الخلائق ، داهمه المرض واشتد به الهم ، وزاد به الغم، مما أدى إلى تقصيره في عمله وتراجع تجارته، وما كان مني إلا أن حاولت مرة أخيرة، فرزقنا الولد .. بعد أن أصبحت كالحة عاطلة ليس لي بريق ولا فائدة .. جاء الولد بعدما بُني بيني وبين أبيه سور من الجفاء الروحي وسياج من الخوف الذي جعل ليلي مسهدا و حزني سرمدا فلم يبق لي من حلاوة الدنيا شيء !! و في يوم الاحتفال بمولودنا الجديد فرح زوجي فرحا شديدا وأخذ يرقص متهالكا مما حلً به من الأمراض، حتى سقط مغشيا عليه وقد فارق الحياة ..!! أحسست ساعتها بالدوار و كأني في عالم آخر لا أعرفه ولا أستوعبه ولا أتصوره .. رجعت بمخيلتي إلى الوراء .. إلى الغضارة والشباب، إلى الحب والوئام .. إلى الرضى بما قسمه الله لنا من عطاياه .. !! ماذا لو ارتضى كل منا بنصيبه في الدنيا .. !! ماذا لو لم يأت الولد وكانت الزهروات مصدر الحب والحنان والعطاء .. ؟!! فلو علم الله من عطائه خيرا للعباد لأعطاهم ووفاهم وما قدر عليهم رزقهم ، لكنه العليم بالصالح والطالح ،فهو الواهب القادر .. !! ( لله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) ووجدتني أهذي وأُتمتم بكلمات .. !! جاء ما تريده انت وبقى ما أراده الله .. !! ليتك دُمت حبيبي ودامت ذكراك .. لكن بسخطك على إرادته لم تتمتع بما تمنيت وما سعدت وما وفيت .. !! ذهب الجسد وغابت الروح، ولم تبق لنا إلا سوء الذكرى والنوح.. !! فالسعادة السعادة في الرضى بما قدر الحكيم .. والرضا بما منحه العليم وبما خُط في اللوح المحفوظ ..!!