الإثنين , ديسمبر 23 2024
د. ماجد عزت إسرائيل

ثقافة العتاب!

د.ماجد عزت إسرائيل

 العتاب مصدر عاتب؛ وهو لوم من طرف لآخر على سبيل الحب والإدلال، وإنما يعاتب من ترجى عنده العتبى، أي: الرجوع عن الذنب والإساءة.

أما الأعداء فلا يعتبون على بعضهم بعضًا. ويُقال في الأمثال الشعبية: “عتاب الندل اجتنابه”: وهو مثل يعني أن عتاب الشخص الندل يكمن في تجنب التعامل معه.

وأيضًا “العتاب صابون القلوب”، وقد يكون ذلك صحيحًا في المفهوم البشري، فالعتاب لغة: يعني المكاشفة وتوجيه الملامة من صديق لصديقه، على إساءة ما، وذلك درءًا للتباعد والجفاء. ومنذ بدء الخليقة ظهر ضعف الإنسان وعدم تبصُّره في إلقاء اللوم على غيره حتى على الله نفسه، حيث قَالَ آدَمُ لله حين سأله عن عصيانه للوصية الأولى: “فَقَالَ آدَمُ: «الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ».” (تك 3: 12).

  وأيضًا وردت العديد من الآيات بالكتاب المقدس عن العتاب واضحه نذكر منها:”عَاتِبْ صَدِيقَكَ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ فَلاَ يَعُودُ يَفْعَلُ. عَاتِبْ صَدِيقَكَ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَقُلْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فَلاَ يُكَرِّرُ الْقَوْلَ.

“عَاتِبْ صَدِيقَكَ فَإِنَّ النَّمِيمَةَ كَثِيرَةٌ.” (سفر يشوع بن سيراخ 19: 13- 15).

وأيضًا “العتاب خير من الحقد” (سفر يشوع بن سيراخ 20: 1). “وكذلك “«َإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ.” (مت18: 15).

و”اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ، وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ” (إنجيل لوقا 17: 3). و وفي ذات المصدر نقرأ قولاً لمرثا أخت لعازر عن العتاب حيث ورد قائلاً:”وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ.

فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: «يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!»” (لو 10: 40).

  وقد عبر أديب نوبل نجيب محفوظ عن العتاب قائلاً:” يعاتبونك على أبسط تصرفاتك، أما على تصرفاتهم لاعين تبصر، ولا أذن تسمع، ولا ضمير يشعر!.

بينما عبرت عنه الأديبة الأمريكية هيلين كيلر قائله:” أجمل النفوس هي التي لا تنكر المعروف رغم شدة الخلاف”. أما المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث(1971-2012م) فذكر عنه قائلاً:” العتاب‏ ‏لايكون‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏أحد‏.

‏كثيرون‏ ‏أخطاؤا‏ ‏إلي‏ ‏السيد‏ ‏المسيح‏ ‏ولم‏ ‏يعاتبهم.‏ ‏فما‏ ‏عاتب‏ ‏الشعب‏ ‏الذي‏ ‏صاح‏ ‏قائلا: اصلبه.‏ اصلبه.

‏ولا‏ ‏عاتب‏ ‏رؤساء‏ ‏الشعب‏ ‏من‏ ‏الشيوخ‏ ‏والكهنة‏ ‏والكتبة‏ ‏والفريسيين‏، ولاسائر‏ ‏الأعداء‏ ‏والمقاومين‏.‏

ولكنه‏ ‏عاتب‏ ‏أحباءه‏ ‏أو‏ ‏بعض‏ ‏أحبائه‏…”.

  و‏أحيانا‏ يكون العتاب ليّنًا ليس فيه إساءة أو ذم أو تحقير، وعدم تكرار كلمات العتاب والمبالغة فيها، وعدم إعطاء الخطأ حجمًا أكبر من حجمه، وعدم إطلاق الأحكام القاسية أثناء العتاب، والحفاظ على مساحة الودّ، وعدم التفتيش عن الأخطاء المستورة أثناء المعاتبة، وعدم فضح الأسرار، وإيصال فكرة العتاب للآخرين بطريقة راقية ولطيفة دون غلو أو مبالغة، لأنّ طريقة العتاب تُعبر عن أخلاق الشخص.فقد ‏‏عاتب السيد المسيح القديس‏ ‏بطرس‏ ‏الذي‏ ‏مشي‏ معه‏ ‏قليلا‏ ‏علي‏ ‏الماء.

ولكن بطرس‏ ‏لما‏ ‏رأي‏ ‏الريح‏ ‏شديدة‏ ‏خاف‏ ‏وإذ‏ ‏ابتدأ‏ ‏يغرق‏ ‏صرخ‏ ‏يارب‏ ‏نجني: “فَفِي الْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟»” (مت 14: 31).

  وهناك عتاب وصف بالشدة وإظهار المرارة القاسية وحقا يحتاج لتأمل في ثقافته أَبِينَا إِبْرَاهِيم أَب الآَبَاء عاتب الله بقوله: «أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ، مَاذَا تُعْطِينِي وَأَنَا مَاضٍ عَقِيمًا، وَمَالِكُ بَيْتِي هُوَ أَلِيعَازَرُ الدِّمَشْقِيُّ؟»” (تك 15: 2). فأيوب الصدّيق خير مثالاً لكثرة العتاب وشدّته. ونذكر هنا ما ورد في سفره قائلاً: “«قَدْ كَرِهَتْ نَفْسِي حَيَاتِي. أُسَيِّبُ شَكْوَايَ.

أَتَكَلَّمُ فِي مَرَارَةِ نَفْسِي قَائِلًا للهِ: لاَ تَسْتَذْنِبْنِي. فَهِّمْنِي لِمَاذَا تُخَاصِمُنِي! أَحَسَنٌ عِنْدَكَ أَنْ تَظْلِمَ، أَنْ تُرْذِلَ عَمَلَ يَدَيْكَ، وَتُشْرِقَ عَلَى مَشُورَةِ الأَشْرَارِ؟ ألك عينا بشر، أم كنظر الإنسان تنظر”(أي 10: 1-3).

وأيضًا  “أَخْطَأْتُ؟ مَاذَا أَفْعَلُ لَكَ يَا رَقِيبَ النَّاسِ؟ لِمَاذَا جَعَلْتَنِي عَاثُورًا لِنَفْسِكَ حَتَّى أَكُونَ عَلَى نَفْسِي حِمْلًا؟” (أي 7: 20).

أما إرميا النبي فكان عتابه لله من جِهَةِ أَحْكَامِه حيث ورد بالكتاب قائلاً: “أَبَرُّ أَنْتَ يَا رَبُّ مِنْ أَنْ أُخَاصِمَكَ.

لكِنْ أُكَلِّمُكَ مِنْ جِهَةِ أَحْكَامِكَ: لِمَاذَا تَنْجَحُ طَرِيقُ الأَشْرَارِ؟ اِطْمَأَنَّ كُلُّ الْغَادِرِينَ غَدْرًا!” (إر 12: 1).

ولم يفت الشعراء الحديث عن العتاب في شعرهم ومنهم العراقي معروف الرصافي (1875-1945م) حيث قال: 

              كان لي وطن أبكي لنكبته ….. واليوم لا وطن لي ولا سكن.

             ولا أرى في بلاد كنت أسكنها .. إلا حثالة ناس قاءها الزمن.

أما أمير الشعراء أحمد شوقي(1868-1932م) فكتب قصيدته عن العتاب قائلاً:

على قدرِ الهوى يأْتي العِتابُ

ومن عاتبتُ يَفْديِه الصِّحابُ

ألوم معذِّبي ، فألومُ نفسي

فأُغضِبها ويرضيها العذاب

ولو أنَي استطعتُ لتبتُ عنه

ولكنْ كيف عن روحي المتاب

ولي قلب بأَن يهْوَى يُجَازَى

ومالِكُه بأن يَجْنِي يُثاب

ولو وُجد العِقابُ فعلتُ لكن

نفارُ الظَّبي ليس له عِقاب

يلوم اللائمون وما رأَوْه

وقِدْماً ضاع في الناس الصُّواب

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.