مختار محمود
منذ أيام.. احتفل ألتراس الأكاديمي المثير للجدل الدكتور نصر أبو زيد بذكرى ميلاده الثامنة والسبعين، وبذكرى وفاته الحادية عشرة؛ فالرجلُ وُلدَ ومات في شهر يوليو، مُكررين مرثيات وبكائيات كل عام، دون كلل أو ملل، فهل كان “أبوزيد” حقًا وصدقًا مفكرًا من طراز فريد، وهل أتى بما لم تأتِ به الأوائلُ؟ ثم ماذا عساها أن تضيف السطور التالية في سيرة بطل أشهر قضية فكرية في خواتيم القرن الماضي؟ قبيل منتصف تسعينيات القرن الماضى.. أصبح “أبو زيد” بطلاً لقضية مُفتعلة، انتهت بخروجه من جامعة القاهرة والتفريق بينه وبين زوجته وهجرته إلى الخارج. نعم..
القضية كانت مُفتعلة، مثل كل القضايا التى يفتعلها المعسكر العلمانى “المتطرف” بتنويعاته وتوجهاته المختلفة حتى الآن، وتلك كانت الفريَّة الأولى فى سلسلة من الافتراءات الطويلة التى أنتجتها رحلة صاحب كتاب “مفهوم النص”، ربما دون قصدٍ منه! لولا التصعيدُ المُتغابى ضد “أبو زيد” لظلَّ الرجلُ مغمورًا داخل قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، لم يسمع به أحدٌ مثل غيره.
الغباءُ فى التعامل مع بعض مثيري الجدل ومروجي الأفكار الغريبة يضعهم فى بؤرة الشهرة، ويمنحهم أدوارًا لا يستحقونها.. هذه حقيقة لا تقبل تشكيكًا، وهم يسعوَن إلى ذلك سعيًا، بكل الوسائل المتاحة والممكنة، بل إنهم يبذلون في سبيله كل غالٍ ونفيس.
ومؤخرًا نظمت واحدة من هذا الفريق قصيدة تهجو فيها بعض الثوابت الدينية، ولما لم يسمع بها أو يلتفت إليها أحدٌ، تواصلت مع قرنائها وقريناتها وحرضتهم على الكتابة ضد القصيدة وضدها؛ حتى تحقق المراد، على طريقة الرجل الذي بال في بئر زمزم، حتى يتحاكى بسيرته الركبان، قبل ظهور فوضى التريندات والهاشتاجات! قدَّم “أبو زيد”، الذي كان مُتخصصًا في الدراسات الإسلامية وفقه اللغة العربية، أبحاثه للحصول على درجة الأستاذية، إلا أنَّ اللجنة المُختصَّة، وكانت تضمُّ علماءَ أجلاءَ نابهين رفضتها، وهذا أمرٌ يتكرر كثيرًا داخل أروقة الجامعات، غير أن اللجنة اعتبرتْ أيضًا تلك الأبحاثَ تنطوي على الإساءة المُتعمدة والمُباشرة إلى القرآن الكريم..وهنا مربط الفرس ومكمن الخطر ولُبُّ القضية.
تفاعلتْ القضية على خلفية دعم بعض المثقفين غير الموضوعيين والعلمانيين المتطرفين والذين فى كل وادٍ يهيمون، والذين اعترفوا لاحقًا بعدم قراءتهم لبحث “أبو زيد” وأبدوا ندمهم على التعاطف معه، وأضحى الباحث المغمور، بين عشيةٍ وضُحاها، اسمًا معروفًا ورمزًا جديدًا للتنوير والتنويريين وصنمًا يركعون له ويسجدون وحوله يطوفون ويتباكون عليه في ذكرى الميلاد وذكرى الوفاة، فيما تمَّ وصمُ أعضاء اللجنة التي احتجَّتْ على أبحاثه، وكان من بينهم العالمُ الجليلُ الدكتور عبد الصبور شاهين – رحمه اللهُ- بالجهل والتطرف والرجعية، فهل كان “أبو زيد” صادقًا وجادًا ومُجددًا في أطروحاته، وهل أتى بما لم تأتِ به الأوائل، أم أنه أعاد إنتاج من سبقوه، وقال كلامًا مُكررًا؟ على الرغم من فداحة أطروحات “نصر أبو زيد” بشأن القرآن الكريم إلا أنها لم تشكّل في جوهرها، برأى كثيرٍ من المُفكرين المحايدين والكُتاب العُدول، طرحًا جديدًا؛ فهى كانت مجرد صورة من صور استخدام نظرية “التفسير الماركسى” في التعامل مع القرآن الكريم بما يُخضع النص، بحسب لفظه، للأيدولوجية، وهى هنا: “الماركسية العلمية” التي آمن بها واتخذها منهجًا، إذ يقول: “إنَّ الدعوة للتحرُر من سلطة النصوص ومن مرجعيتها الشاملة ليس إلا دعوة لإطلاق العقل الإنسانى حرًا يتجادل مع الطبيعة ويتجادل مع الواقع الاجتماعى والإنسانى في مجال العلوم الإنسانية والفنون والآداب”.
إذن.. فإنَّ مشروع “أبو زيد” تجسَّدَ في وضع التصورات الماركسية والمضامين المادية الجدلية وتفسيراتها للحياة والكون والإنسان والوحى والنبوة والغيب والعقيدة في المعنى القرآنى، فيصيرُ القرآنُ ماركسيًا ينطق باسم “ماركس” وفلاسفة المادية الجدلية والهرمنيوطيقا، فيُغير بذلك المفاهيمَ الرئيسية للقرآن ويلغى المعانىَ الحقيقية للسور والآيات ويطمس الحقائقَ الدينية التي رسخها القرآن، وبيَّنتها السنة النبوية!! النصُّ القرآنىُّ، في اعتقاد “أبوزيد” وورثته وأشياعه، منظومة من مجموعة من النصوص، وهو يتشابهُ في تركيبته مع النص الشعرى، كما هو واضحٌ من المُعلقات الجاهلية مثلًا، والفارق بين القرآن وبين المُعلقة من هذه الزاوية المحددة، يتمثل في المدى الزمنى الذي استغرقه تكوُّنُ النص القرآنى، فهناك عناصرُ تشابُهٍ بين النص القرآنى وبين نصوص الثقافة عامة، وبينه وبين النص الشعرى بصفة خاصة، وسياق مخاطبة النساء في القرآن المغاير لسياق مخاطبة الرجال هو انحياز منه لنصوص الصعاليك! اتهم صاحبُ كتاب “نقد الخطاب الدينى”، بشكل واضح وصريح، الوحىَّ بأنه “ليس له مصدر سماوى مُقدس”، ونفى عنه “صفة الفوقية”، إنْ صحَّ التعبير، لأنه عنده خرج من الواقع ورجع إلى الواقع، وليس هناك إلا الواقع!، وهو ينصُّ على ذلك في قوله:”فالواقع أولًا والواقع ثانيًا، والواقع أخيرًا”! لم تقتصرْ افتراءاتُ “أبوزيد” عند هذا الحدِّ، وإن كان ذلك أشنعَها، لكنها اشتملتْ أيضا على الطعنَ في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيثُ اتهمهم بـ”تأليه النبىِّ”، كما اتهمهم بأنهم ليسوا أطهارًا ولا أخيارًا، كما طعنَ في أئمة المسلمين واتهمهم بالكذب مثل: الإمام “أبى حنيفة” رحمه اللهُ!! يمكنُ القول: إن “أبو زيد” لم يكنْ مفكرًا ولا مجددًا ولا تنويريًا جاداَ أو مبدعًا أو مجددًا، ولكنه رجلٌ استهواه العبثُ بكل شئ، مع التأكيد على أنه لم يُنتجْ جديدًا، بل إنه أعاد إنتاج مَن سبقوه، وفي أحيان كثيرة لم يكن النقلُ أمينًا، ولم يكن الرجلُ يمانع من أن يتراجع عنه؛ فهو – والحقَّ أقولُ- كان بسيطًا سلسًا طيب المعشر، لولا حالة “البروباجندا” التي أحاطت به وأصدقاء السوء، فظنَّ نفسه نسخة جديدة ومُعدَّلة من الفلاسفة القدماء مثل: “محيى الدين بن عربي”، وهو لو يكن كذلك بطبيعة الحال، وهو كان يعلمُ ذلك، والذين آزروه ودعموه كانوا يُدركون ذلك، ولكنهم استخدموه “مخلب قط” ولا يزالون، كما يوظفون غيره؛ تحقيقًا لأغراض خبيثة، لم تعدْ خافية على أحدٍ، بعدما استفحلت وتفاقمت فى السنوات الأخيرة، وآتت أوزارها! افترى “نصر أبو زيد” على القرآن الكريم، مُتعمدًا أيضًا، عندما انتزع جملة شاردة من ديوان “نهج البلاغة” المنسوب زورًا إلى الإمام علي بن أبي طالب، وحرّفها، وقدّمها للقاريء، باعتبارها دليلا دامغًا على اعتراف الإمام علي بأن القرآن الكريم “مُنتج بشرى ينطقُ به الرجالُ”، وليس نصّا إلهيّا، “ينطقُ عنه الرجالُ”، والفارقُ بين الجملتين شاسعٌ، والنية السيئة واضحةٌ. وسوف تُصدمُ –عزيزي القاريء- عندم تعلم أيضًا أن هذه العبارة بنصيها القديم والمُحرَّف لا أصلَ لها في كلام الإمام علي، بل سوف أزيدك من الشعر بيتًا عندما أخبرك بأن ديوان “نهج البلاغة” نفسه الذي لم يتم وضعه إلا بعد 350 عامًا من رحيل رابع الخلفاء الراشدين مدسوسٌ عليه ولم يقل منه شيئًا.
وخلف من بعد “أبو زيد” خلفٌ يتبعُون نفس النهج المريب، فى بناء أحكام فاسدة، من خلال أدلة واهنة، لا أصل لها، اعتمادا على أن المسلمين أمةٌ لا تقرأ، وتلك هي المعضلة الحقيقية. الدكتور نصر حامد أبو زيد، غفر الله الله له، لم يصنع منجزات جديرة بالبحث والدراسة، ولكنه خلف إخفاقاتٍ يقتاتُ عليها كارهو الإسلام والقرآن بالسليقة ويرتزقون من ورائها حتى الآن!