الجمعة , نوفمبر 22 2024
مدرسة الأقباط بالأقصر

من وحىِ الذكريات

عز الدين إدريس

مررتُ فى شارع يوسف حسن , ورغم أننى أسيرُ فيه كثيراً لكنّ هذه المرة كانت مختلفةً عن سابقاتها , فربما لأننى كنت سائراً على قدمىّ , فما إن بلغتُ هذه القلعةَ العظيمةَ من قلاع التعليم بالأقصر ومحافظة قنا فى سالف الأيام

وقفتُ وقفةَ المتأمّل الناسك أمام هذا المحراب التعليمى العريق والمتميز والذى كان ينافس على المراكز الأولى

بين المدارس الإعدادية فى الجمهورية , إضافةً إلى إستبداده بالمركز الأول فى المحافظة فى العقود الأخيرة

من القرن الماضى , وأخذتْ الذكرياتُ والخواطر والمشاعر والأحاسيس تتزاحم بداخلى

فلم أدرى أيهم أطرحهُ عنى وأيهم أجتبيه , فالمكان كما هو منذ رأيتُه لأول مرة , نفس الجدران الكثيفة الفارعة

نفس النوافذ الخشبية العتيقة , نفس الأبواب الحديدية القديمة , لم يتغير شيئ منذ عقودٍ خلتْ

سوى لافتةٌ ملونةٌ تحمل إسم المدرسة بحانب اللافتة الرخامية القديمة ومكيِّفٌ للهواء معلقٌ بأحد جدرانها

فوقفتُ وقد إستقر بخاطرى أول يوم إلتحقت فيه للدراسة فى هذه المدرسة من خريف عام 1979

وياله من يوم , لم يمضِ عليّ من الأيام مثلهِ كثير , فقد إختلجَنى فيه كل مايختلج البشر من مشاعر فى يوم واحد , أملٌ ورجاء , خوفٌ وترقب , سرورٌ وبهجة , بضعُ يومٍ كأنه عقدٌ من زمن …!

بدأ هذا اليوم – كعادة المدارس – بطابور الصباح فرأيتُ أقراناً لاعهد لى بمثلهم

فقد كان لا يلتحق بهذه المدرسة إلا المتفوقون من المرحلة الإبتدائية , والذين كانت تستأثر بهم

مدارس الأمريكان والفرنسيسكان ووادى الملكات من أبناء القضاة والعسكريين والأطباء والمهندسين

والنخبة من رجلات ونساء الأقصر , وشرذمةٌ قليلةٌ من أبناء مدارس الريف مثلى , فأخذت عيناىْ

– رغماً عنى – تتجول بين الصفوف لترى الجينز والقمصان الحديثة والأزياء المبهجة

والحقائب الجلدية التى تحمل على الظهر والأحذية الكوتشى والأديداس والبوما

وأشياءً لم ترى عيناىْ ولم تسمع عنها أُذناىْ ولم تخطر بخلَدى من قبل , فغضُ الطّرفِ أننى

كنتُ أكتسى من شركة بيع المصنوعات المصرية , وأنتعل من شركة باتا للأحذية

وردائى للرياضة كان لايزيد عن فانلة بيضاء وسروال أبيض يخاطُ من قماش الخام أو الدّبلان يحاط

بخطيْن مُلونيْن من بقايا قميص أو بنطلون , وحقيبة المدرسة كانت تصنع من أكياس الأسمدة الزراعية

أو بقايا قماش المريلة …! وإنتهى طابور الصباح بسلام …! وجاءت الحصة الأولى فى فصل 3/1

وكانت حصة اللغة الإنجليزية .

عز الدين إدريس

فبدأت مسز إحسان سلامة بالتحية والتعريف بنفسها ثم قالت : من أراد أن يُعرّف بنفسه بالإنجليزيه فيفعل

فتبادرَ أبناء الأمريكان والفرينسيسكان يرطنون بكلمات لا أفهمها , غير أنى ألتقط من تلك الكلمات الإسم فقط

فمبلغ علمى عن الإنجليزية هو ثانك يو يعنى شكراً , فمدرستى الإبتدائية لم تكنْ بها مواد تدرّس سوى

مواد العلوم والحساب واللغة العربية والمواد الإجتماعية والتربية القومية فلم نعرف هذه الإنجليزية

ولا الموسيقى ولا الباسكت بول ولاالهاند بول ولا هذا المدعو بالبينج بونج , حسبنا من ذلك الحجلة والطّاب والغمّاية وركب الحمير والجِمال والجَاموس ومصارعةِ الكلاب …..!

ومرت حصة مسز / إحسان سلامة …بخير وسلامة …! وجاءت الحصة الثانية ثم الثالثة فالرابعة

وأنا على حالٍ لا يعلمه إلا الله , حتى دق جرس الفسحة وبدأ كل زميل من الزملاء الغرباء يُخرِج طعامه

فتريثتُ قليلاً لأنظر ماذا يأكلون , فرأيتُ العجَبَ العُجاب , رأيتُ – اللهم إجعله خيرا – أحدهم يمسك بساندويتش محشوٍ بشيئ أصفر غريب , فعلمتُ أنها جبنةٌ صفراءٌ فاقعٌ لونُها تسُر الناظرين تسمى ( فلمنك)

ورأيتُ ثانٍ يقضم رغيفاً محشواً بشئ بنى اللون – أستغفر الله العظيم – قيل لى : إنه لانشون

فسألت : أهو جبنة أيضاُ ..؟ قالوا : إنه لحمٌ بارد , قلت : لحمٌ وبارد .. والله ما علمتُ اللحمَ إلا هُبَرا

سبحانه قادر على كل شيئ …!وهذا يحشو جبنة رومى وذاك يحشو بلوبيف وآخر يحشو – بعيد عنك – بسطرمة

فعُدتُ إلى حقيبتى أتفقد نصف رغيف الرُّغْفان ذا النتوءات الثلاثة المحشو بالجبن القريش المغطاة بلبابة الخبز , أُحادثة معتذراً : الوداع ياصديقى , فهذا فراقُ بين وبينك , فلقد رافقتنى أعواماً , مارأيتُ منك إلا خيراً

غير أنه لم يعد لك بين هؤلاء وأولئك مَخرَج , وسأنبئك -حين نعود إلى البيت – بتأويل ما لم تُحطْ به خُبْرا

وآثرتُ السلامة وذهبت إلى المقصف المدرسى لشراءِ رغيفٍ من طعمية …!وجاءت الحصة الخامسة : ودخل إلينا رجلٌ يحمل حقيبة كبيرة ويرتدى نظارة كثيفة وتبدو عليه آيات الحشمة والوقار

فأغلق الباب خلفة , فوقفنا قياماً , فأشار لنا بالقعود وقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فوقَر فى قلبى أنه مدرس اللغة العربية ….! يافرج الله … !وقال : أنا عادل عباس مدرس اللغة العربية حاصل على ليسانس الآداب قسم اللغة العربية من جامعة المنيا وو ….إلخ

ثم رحّب بنا ورددنا الترحيب وأخذ كل منّا يعرِّف بنفسه حتى إذا بلغ من الحصة مبلغٌ

وإنتهى وقت التعارف , أخرج المعلم من حقيبته كتاباً وقلّب بعض صفحاته وإتجه صوبَنا وسأل : هل تسلمت كتب اللغة العربية …؟ فلما أجبنا بالإيجاب قال : أخرِجوا كتاب النصوص صفحة كذا , ففعلنا , فكان نصاً من قصيدة

( الفاروق عمر .. لحافظ إبراهيم ) , فأخذ يتلو النص , حتى إذا فرغَ من تلاوتهِ أشار إلينا

وقال : من يستطيع أن يقرأه …؟ فلم يجبه أحدٌ , فترويتٌ قليلاً أتفحص وجوه أقرانى من أبناء الأمريكان والفرنسيسكان ماذا هم فاعلون …؟فلما وجد التّجهُم يكسو الوجوه أعاد السؤال مرة ثانية

حينها رفعتُ ذراعى وأشار إلىّ بالقراءة , فوقفتُ وقفةَ الأسد المُناجز – وقفةٌ لاتضاهيها إلا وقفة الرئيس

السادات بمجلس الأمة بعد إنتصار أكتوبر – فطرحتُ الكتابَ جانباً , وأخذتُ أُنشدُ من وحى الحفظ

لا من سطور الكتاب ..يارافعاً رايةَ الشّورى وحارسها :: جزاكً ربُّك خيراً عن مُحبيها .

رأىُ الجماعةِ لاتشقَى البلادُ به :: رغم الخلافِ ورأىُ الفردِ يُشقيها .إنْ جاعَ فى شدةٍ , قومٌ , شَرَكتهمْ :: فى الجوعِ أو تنجَلى عنهم غواشيها . جوعُ الخليفةِ والدّنيا بقبضتهِ :: فى الزُّهدِ منزلةً سبْحانَ مُوليها .أفمنْ يبارى

أبا حفصٍ وسيرتَه :: أو منْ يحاولُ للفاروقِ تشْبيها ….!يومَ إشتهتْ زوْجُهُ الحلوى فقالَ :: لها : أنّى لى ثَمنَ الحلوى فأُشريها ..؟ مازادَ عن قوتِنا فالمسلمونَ بهِ أوْلى :: قومى إلى بيتِ المالِ رُدّيها .

كذاكَ أخْلاقهُ كانتْ ..وما عُهِدَت :: بعد النبوةِ أخلاقٌ تُحاكيها . إلى آخر النّص المقرر , والمعلم يبدو بين الذهول والسرورِ , فما إنْ إنتهيتُ من النص أقبل نحوى بوجهه يسأل : أأنت راسبٌ من السنة الماضية …؟ قلت له : لا بل أنا مُستجد .

قال : كيف لك أن تقرأه بهذا النحو … وكيف لك أن تحفظَه ..؟ فأخبرتُه أننى من أبناء الكتاتيب

قد أمضيتُ بها سنوات قبل إلتحاقى بالمدرسة الإبتدائية , كدأب إخوتى من قبل ومن بعد

فتخرجتُ فيها وأنا أجيدُ العربية قراءةً وكتابة , وأحفظُ نصوصاً مقررةً للصف الأول والثانى والثالث

من المرحلة الإعدادية عن ظهر قلب , وأنّ أخوتى تخرجوا فى كليات الدراسات العربية والآداب

قسم اللغة العربية – وذكَرتُهم – فقال : يا الله ..أحدهم كان زميلاً لى بكلية الآداب , كيف لى لم أنتبهْ لتشابه

الأسماء حين ذكرتَ اسمك وإنت تعرِّفنى بنفسك …! ومنذ تلك الحصة السعيدة أصبحت الفتى المدلّل

من أساتذة اللغة العربية بالمدرسة , حتى أنّ الأستاذ / عبدالستار سعيد معلم اللغة العربية بالصف الثانى

إبتدع َسلوكاً جديداً , فما أن يَفرُغ من قراءة النّص القرآنى أو الشّعرى أو النّثرى يرفع إحدى ذراعيه

فيهتف الجميع فى صوت واحد : إقرأ ياعز ….! (وكان فين هواك ياحبيبى من بدرى كان فين..نشأت الكاشف ) …

.وإلى منشور قادم إن شاء الله .وذكريات أخرى فى مدرسة الأقباط ..

أستودعكم الله وكل عام وأنتم بخير .

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

قومى استنيرى

كمال زاخر رغم الصورة الشوهاء التى نراها فى دوائر الحياة الروحية، والمادية ايضاً، بين صفوفنا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.