مختار محمود
العبدُ حُرٌّ إذا قنَعَ، والحُرُّ عَبدٌ إذا طمَعَ، فما بالُكم بأناس لا يقنعون ويطمعون ويستزيدون حتى لو كان على حساب النخوة والكرامة والوطن والعقيدة؟ “إننا نَتخلَّقُ بأخلاق العبيد، مهما بدا علينا من علائم الحرية وسماتِ السيادة، سأقولُ ذلك وأعيدُه؛ لعلهُ يطِنُّ في الآذان، فَيرنُّ صداهُ في الرؤوس، فتقرُّ آثارُه في النفوس” بحسب فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة الراحل الدكتور زكى نجيب محمود الذى لم يكن قد عاصرَ مثلَ هذا الصنفِ من البشر، ولم يكن أثره تفاعل وتفاقم على هذا النحو! لا تصدِّقْوا أنَّ زمنَ الرقِّ قد ولَّى، وأنَّ عصرَ العبودية قد أدبرَ؛ فلكلِّ عهدٍ رقيقُه.
ولكلِّ زمنٍ عبيدُه. لا أحدَ فرضَ عليهم الاستعبادَ، هم من جعلوا من أنفسهم عبيدًا وخدمًا للمال وللشهرة، ورهنوا ذواتهم وضمائرهم وعقولهم لمن يدفع ويجزل لهم العطاء! العبيدُ والخدَمُ الجُددُ ذوو نفوس موبوءة، يحاربون اللهَ ورسولَه، يُخادعون الله وهو خادعُهم، يكذبون على كل الناس، جنود مُخلصون مُطيعون لنفوسهم الأمَّارة بالسوء، يأتمرون بأوامرها، الغايةُ عندَهم دائمًا وأبدًا تبررُ الوسيلة، وكأنَّ ميكافيللى هو نبيُّهم ورسولُهم ومُرشدُهم ومُلهمُهم.
نعم.. جُبلَ البشرُ على الخلاف والاختلاف، ولو شاءَ ربُّك لجعل الناسَ أمَّة واحدة ولا يزالون مُختلفينَ.
ومن حقك أن تخالفنى رأيى، ومن حقى أن أخالفك رأيك، وليس من حق أحدنا فرض وصايته على الآخر ولا المزايدة عليه.
يبقى للرأى تقديره واحترامه ووجاهته إذا كان نابعًا من قناعة شخصية، وليس مدفوعًا ولا مدعومًا.
أما الذين يروجون أفكار غيرهم ويستميتون فى الدفاع عنها ويقتاتون من النضال فى سبيلها فهم عبيدٌ وخَدَمٌ لغيرهم.
عندما تجعل نفسك مطية لأنظمة أجنبية كارهة لبلادك فأنت مجرد عبدٍ وخادمٍ لأسيادك الذين يوجهونك ويُملون عليك ما يريدون، ولا علاقة لك بأهل الفكر الرشيد والرأى السديد.
وعندما تجعلُ نفسَك مطيَّة لمن يكرهون دينك ويسعون إلى تحجيمه، فيستخدمونك للإساءة إليه وتشويهه، فتردد أباطيلهم وضلالاتهم، في غوغائية بغيضة، فأنت مُجرد عبد وخادم لهم، وإياكَ أن تُدرجً نفسك على قوائم المثقفين والتنويريين مثلاً؛ شتانِ الفارقُ.
كلا الفريقين، الذين يتمنوَنَ السوءَ للوطن، والذين يجابهون الدين ويعادونه ويعاندونه، ليسوا إلا عبيدًا وخدمًا. ليستْ الزعامة فى أن تكون بوقًا للعدو، تردد أكاذيبه وتُسَرُّ نفسك بوقوع ضرر لبلادك.
وليست البلاغة أن تُحيى كتابات المستشرقين الكارهين للإسلام بالسليقة وتتبناها وتدافعُ عنها في استماتة، وتعتبرُها الصراطً المستقيمَ، ولكنهم خدم.. خدم/ وإنْ تباهوَا أنهم/ أهلُ الكتاب والقلم/ وأنهم فى حَلكة الليل البَهيم/ صانعو النور/ وكاشفو الظلم/ وأنهم ـ بدونهم ـ لا تصلحُ الدنيا/ ولا تُفاخر الأمم/ ولا يُعاد خلقُ الكون كله من العدم، كما وصف “فاروق شوشة” صِنفًا منهم ذات يوم.
الذين يتنازلون عن شرف ضمائرهم، ويبيعونها فى سوق النخاسة لمن يدفع أكثر هم ليسوا أكثر من خدم/ بإصبع واحدة/ يُستنفرونَ مثل قطعان الغنم/ ويهطعون علَّهم يلقوَن/ من بعض الهبات والنعم/ لهم إذا تحركوا/ فى كل موقع صَنم/ يُكبرِّون أو يُهللون حوله/ يُسبِّحون باسمه ويُقسمون/ يسجدون يركعون/ يُمعنون فى رياءٍ زائف/ وفى ولاءٍ مُتهم/ وفى قلوبهم أمراضُ هذا العصر/ من هشاشة ومن وضاعة/ ومن صغار فى التدني/ واختلاطٍ فى القيم.
بائعو الأوطان وبائعو الأديان صِنفٌ واحدٌ وليسوا صنفين، وليسوا أكثر من عبيد أو خدم، وإن تضخمتْ حساباتهم فى البنوك، وتطاولوا فى البنيان، واقتنوا بدلاً من السيارة الواحدة عدة سيارات، وأحاطوا معاصمهم بأغلى الساعات. بائعو الأوطان وبائعو الأديان كانوا ولايزالون وسيظلون مجرد عبيد و خدم لمن يدفعُ ولمن يستأجر ولمن يمتطى.
العبيدُ والخدَمُ لا يعرفون معنى الكلمة، ولا يعلمون أنَّ مفتاح الجنة في كلمة، ودخول النار على كلمة، وقضاء الله هو كلمة. الكلمة – كما أنشد عبد الرحمن الشرقاوى- نورٌ/ وبعضُ الكلمات قبورٌ/ وبعضُ الكلمات قلاعٌ شامخةٌ يعتصمُ بها النُّبل البشري/ الكلمة فرقانٌ بين نبيٍّ وبغيٍّ/ بالكلمة تنكشفُ الغمة/ الكلمة نور/ ودليل تتبعه الأمة/ إن الكلمة مسؤولية/ إن الرجل هو كلمة/ شرفُ الله هو الكلمة.
وليس للعبيد والخدم من يبيعون أوطانهم وأديانهم كلمة أو شرف أو قدرٌ أو وزنٌ. الأوطانُ لن يهدَمها العبيد المُستخدَمون، والإسلامُ لن يكسرَه الخدم المُستأجرون، لأن للإسلام ربًا يحميه، ولن يُطفئ نورَه شِرزمة قليلون، علمانيين كانوا أو تنويريين!