الأحد , ديسمبر 22 2024
طلعت رضوان

الأسباب الثقافية والإجتماعية للتحرش الجنسى

طلعت رضوان

    أعتقد أنه يجب أنْ يسبق الاجابة عن هذه الأسباب السؤال التالى: لماذا يكون التحرش فى بعض الدول ولايكون فى دول أخرى؟ أو توجد ولكن بنسب قليلة جدًا. هذه الحقيقة تضع الباحث أمام ظاهرة غاية فى التناقض بين الشعارات والواقع: فالدول العربية (ومصر) التى يعتنق أغلب مواطنيها الإسلام، هى أكثرالدول التى تنتشرفيها هذه الظاهرة.

    فى مصر ظهرت بدايات التحرش فى الثمانينيات من القرن العشرين، وانشغل الإعلام وقتها بالشاب الذى حاول التحرش بفتاة بها إعاقة جسدية فى ميدان العتبة داخل الأتوبيس. ثم اختفتْ الظاهرة نسبيًا لعدة سنوات إلى أنْ عادتْ على استحياء مع بداية الألفية الثالثة، وتفاقمتْ بعد انتفاضة شعبنا فى شهر طوبة/ يناير2011والمُلفت للنظر أنه طوال الثمانية عشر يومًا الأولى، لم تشهد مصر كلها حادثة تحرش واحدة، لا فى ميدان التحرير، ولا فى أى ميدان من ميادين محافظات مصر، بينما بدأ التحرش بعد أنْ تولى المجلس العسكرى الحكم ، ووفقـًا لتقارير منظمات حقوق الإنسان المصرية، فإنّ التحرش كان مُتعمدًا من ضباط وجنود الشرطة العسكرية والبوليس الذين يرتدون ملابس مدنية.

ووصل الأمر لدرجة انتهاك حرمة الناشطات السياسيات عندما تولى الضباط والجنود تعريتهن فى الميادين العامة، ثم كارثة (كشف العذرية) داخل معتقلات الشرطة العسكرية.

وللأمانة فإنّ تعرية الناشطات حدث أيام حكم مبارك على سلم نقابة الصحفيين.

ولكن عام 2013هو الذى شهد المزيد من ظاهرة التحرش بعد تصاعد المد الثورى من أبناء الجيل الجديد الذى تجاوز سياسات وأفكارالجيل السابق من الحركة الوطنية ، ومن هنا أدرك الإسلاميون الذين يحكمون مصر حاليًا خطورة هذا الجيل الذى تكاد تكون نسبة الفتيات متساوية مع نسبة الفتيان، فكان مخطط التيارالدينى الفاشى هو تشويه هذا الجيل، بزعم وجود تحرش بينهم، وكانت الأكذوبة الفاضحة عندما اعتدى الإسلاميون على المتظاهرين أمام قصرالرئاسة وهدموا خيامهم وسرقوا مُتعلقاتهم الشخصية، يومها زعموا أنهم عثروا داخل الخيام على بعض وسائل منع الحمل.

والسؤال الذى تجاهله الإعلام هو: هل يقبل العقل الحرهذا الزعم؟ وهل هؤلاء الشباب من الحماقة لهذه الدرجة وهم يتوقعون الاعتداء عليهم من الشرطة ومن الإسلاميين فى أى وقت؟

  أما إذا استبعدنا الحديث عن التحرش خلال فترة المد الثورى، وعدنا إلى الجذورالاجتماعية والثقافية للظاهرة، فأول ما يُلفت النظرأنّ التحرش فى مصرقبل يوليو52 لم يُشكل ظاهرة عامة، ويذهب ظنى أنّ شعبنا لم يرتكب هذا الفعل الشائن.

وعن هذه الظاهرة ذكرعالم الاجتماع د. سيد عويس أنه عندما جاء إلى القاهرة فى أربعينيات القرن الماضى، كان الشباب يُغازلون الفتيات فى الشارع بكلمات رقيقة مثل (بنرمى السلام على الجمال) أو(يا حلو صبّح يا حلو طل) والتعبير الأخير تحوّل إلى أغنية شهيرة غناها المطرب الشعبى محمد قنديل، فكانت الفتاة أو السيدة ترد وهى تبتسم (عيب إختشى) وينصرف كل إلى حاله.

وما ذكره د. سيد عويس تكرّرفى فترة الخمسينيات والستينيات وهو ما شاهدته بنفسى. إذن نحن أمام ظاهرة غاية فى التعقيد والتناقض: فى الزمن الذى لم يكن فيه للأصوليين سيطرة كاملة على المجتمع لم يحدث تحرش، بينما العكس بعد أنْ ركبوا كرسى عرش مصر.

مع ملاحظة أنه فى فترة الخمسينيات والستينيات كانت الفتيات والسيدات ترتدين المينى والميكروجيب وتعتززن بشعورهن، وفى الصيف تردين بلوزات نصف كم وتنزلن البحربالمايوهات وفى حفلات أم كلثوم كانت السيدات تجلسن بشعورهن وترتدين فساتين السهرة مع ملاحظة أنهن كنّ أنيقات محترمات، ومع ذلك لم تشهد خلال تلك الفترة ظاهرة التحرش.

هذا الرصد يقودنا إلى البُعد الثقافى، فكلما كان المجتمع يتمتع بالحرية الشخصية، كلما انعدمتْ كل أشكال الاعتداء على الآخر، ومن بينها التحرش.

كما أنّ المناخ الثقافى الذى يحرص على عدم التفرقة بين الأنثى والذكر، كلما كانتْ العلاقة بينهما علاقة سوية، والعكس صحيح.

فمن بين الكوارث الثقافية إشاعة ظاهرة الفرق بين الجنسيْن، ودعوات الفصل بينهما فى مدرجات التعليم، من الحضانة حتى التعليم الجامعى.

فكلما نشأ الجنسان فى مناخ ثقافى يُكرّس لحقيقة أنه لا فرق بينهما من المنظورالإنسانى (وليس البيولوجى) كان الاحترام بينهما هوالقاعدة وليس الاستثناء والعكس صحيح.

وهنا تبرز أهمية النظرة العامة للمرأة، هل هى إنسان مثلها مثل الرجل أم مجرد موضوع للفراش كما ينظرإليها التراث العربى الإسلامى؟ وفى هذا الجانب الثقافى تبدو الأهمية القصوى لدورالتعليم والإعلام.

فإذا كان هذا الدور مع ترسيخ الحقيقة العلمية التى تؤكد أنّ المرأة إنسان فاعل فى المجتمع (ثقافيًا وعلميًا) وأنها أثبتتْ كفاءتها فى شتى مناحى الحياة، وأنّ الكثيرات أسهمن فى العلوم الطبيعية والإبداع الشعرى والروائى، والفقيرات عملن فى المصانع والحقول وأنّ الأبحاث العلمية أثبتتْ أنه رغم صغر حجم مخ المرأة فإنها أكثر ذكاءً من الرجل،  وأنّ قدرتها على تحمل الصعاب لا تختلف عنه كذلك.

وأنّ المرأة هى الأم والزوجة والأخت إلخ وأنّ من يعتدى على أية سيدة يجب عليه توقع (وفقـًا لعلم الاحتمالات) أنْ يحدث نفس الشىء مع أمه أوأخته.

أما لو ركز التعليم والإعلام على ترسيخ الحط من شأنها باعتبارها أقل من الرجل عقليًا وكفاءة فى هذه الحالة يترسّب فى عقل (الذكر) منذ نشأته آفة (الاستباحة) فطالما تلبسه اليقين بالأفضلية على الأنثى فإنه يُبيح لنفسه (وفقـًا لعلم النفس) ازدرائها وبالتالى يدخل فى حالة لاشعورية بحقه فى الاعتداء عليها، سواء بضربها لوكانت زوجة أوالتحرش بها لوكانت غريبة عنه.

  أما عن تأثيرالعوامل الاجتماعية (مستوى المعيشة، مستوى التعليم إلخ) فلا يستطيع أحد إنكار دورها، وإنْ كنتُ أعتقد أنّ هذا الدور يتشكل وفق المناخ الثقافى، وعلى سبيل المثال فإنّ الفقراء فى مصر قبل يوليو52 لم يتحرّشوا بالفتيات، لا فى الجامعة ولا فى الشوارع، بينما أولاد الأغنياء فى وقتنا الراهن يتحرشون بهن.

كما أنّ الزى لا يدخل فى الاعتبار، بدليل الحالات التى رصدتها منظمات حقوق الإنسان للتحرش بفتيات محجبات ومنقبات.

كما أنّ دورالبيئة (المقارنة بين مجتمع المدينة والريف) نسبى، فالفضيلة قد تكون فى الريف أكثر من المدينة، وهذا ما لاحظه أحد قراء صحيفة الأهرام فى سلسلة مقالات بدأتْ فى 24 فبراير1915 بين فتاة وفتى .

وفى أحد هذه المقالات ردّ الفتى على المحافظين الذين ينصحون بمحاربة الرذيلة ويُهاجمون دعاة السفور.

وتعجّب من الذين يطلبون أنْ نـُربى الفتاة على مبادىء الحرية ولانحترم حريتها.

وأنْ نـُعلمها العفاف ولانعتقد فى عفافها.

وكان المحافظون يُروّجون لمقولة أنّ بديل الحجاب هو السفورعلى النمط الأوروبى فكتب ((إنّ البديل هو السفورعلى نمط فلاحات القرى.

ولا أظن أنّ هناك من يدّعى أنّ الفساد منتشر فى القرى ونساؤها سافرات، انتشاره فى المدن ونساؤها محجبات. وإذا كان الإسلام أمر بالحجاب فإنما أمربه فى القرون الوسطى، ونحن اليوم فى القرن العشرين.

ويجب أنْ نـُراعى أحوال الزمان والمكان فى تطبيق أحكام الشرائع والقوانين))

  قد يحتج البعض بأنّ عدم القدرة على الزواج بسبب الفقر، يدفع بعض الشباب إلى التحرش بالفتيات.

وهذه الحجة يجب أنْ تؤخذ بشكل نسبى، بمعنى أنها ليستْ قاعدة، والدليل على ذلك أنّ عدد المُتحرشين قياسًا على عدد السكان ينفى دورالفقر، فإذا كان المُتحرشون بالعشرات أو حتى بالمئات فإنّ الفقراء بالملايين.

كما أنه إذا كان بعض المُتحرشين من الفقراء، فإنّ البعض الآخر من أولاد الأثرياء، كما أوضحت التحقيقات فى حادثة التحرش بإحدى المطربات أمام سينما مترو فى عيد الفطر منذ حوالى ثلاث سنوات، إذْ تبين أنّ معظم الشباب الذين تحرشوا بالمطربة من أثرثرية ، وهذا يعود بنا إلى البُعد الثقافى باعتباره أهم العوامل على ترسيخ قيمة الفضيلة واحترام خصوصية الآخر، أوالعكس عندما يُركزعلى الاقصاء والتمييز، وأنّ الذكرأفضل من الأنثى. وأنّ المحجبة أفضل من التى تـُطلق شعرها للشمس وللهواء.

وأنّ المُخمّرة أفضل من المُحجبة. وأنّ المنقبة أفضل من المُخمّرة. وأنّ من ترفض الخروج من البيت عملا بنص قرآنى ((وقرن فى بيوتكن)) أفضل من كل سيدات كوكبنا الأرضى.                                                    

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.