حكي لي المغسل الرئيسي ذات يوم تم الاتصال به لتغسيل إحدى الحالات في المستشفيات التي كنا نتردد عليها , وعندما وصل عرف أن أولاد الحالة كانوا مصممون تماما على أخذ الميت وتغسيله في بيتهم .
وأصروا علي الخروج بحالتهم من المستشفى دون غسل .
وأصر مدير المستشفى على تغسيل الحالة داخل المستشفى طالما أنها توفيت داخل المستشفى حسب التعليمات . وأمام إصرارهم الشديد اضطر مدير المستشفى أن يستدعى الشرطة اثناء التغسيل .
وهنا جاء دور المغسل الرئيسي لكى يغسل تلك الحالة , وكانت تلك الحالة لرجل وكان من المعروفين والمشهورين في بلدهم والكل يعرف له مواقف مع كل الناس في بلدته , فعند الغسل وجد أن أبناء الحالة جمعيهم واقفون معه في الغسل , وكان عددهم يزيد عن الأربعة , بل إنهم دخلوا الي الغسل بدون كمامات بدون جوانتات بدون آية مهمات وقاية من فيروس كورونا , فطلب منهم لبس مهمات الوقاية فرفضوا جمعيا أن يلبسوا آي مهمات وقاية .
رغم أنه أكد عليهم أن هذا الفعل فيه خطر على صحتهم وعلى بيوتهم , رفضوا أيضا .
بل إنهم انكبوا على حالتهم وهم يبكون ويقبلونه في يديه ورجليه ورأسه وكل أجزاء جسمه , وهم يقولون من مات ليس نحن بأغلى منه يا ليتنا متنا نحن وبقى هو . إنه اغلى ما لدينا وهم في حالة حزن وشجن وبكاء ,
وتم الغسل وهم بملابسهم وكامل وضعهم بدون أية مهمات وقاية
ومن مفارقات الغسل أن إحدي المغسلات وهي تغسل سيدة في إحدي المستشفيات انقطعت عنها الكهرباء , وكان الغسل في الليل
فاضطروا لأن يدخلوا دراجات نارية الى داخل المشرحة لكى تكمل غسل الحالة ,
ورغم أنى حضرت ومارست عدد من مرات الغسل إلا أنى لم أر مريض كورونا وأعراض المرض أمامي , بكل ما فيها من الم شديد , الم قبل الموت كورونا .
حدث هذا عندما اتصل بي صديق عزيز لدى وطلب منى أن أذهب إلى منزله وعرفت السبب إن له ابن عم مريض بكورونا محجوزاً عنده في شقته المقابلة لشقه مسكنه , حيث لا يوجد سرير له في العناية المركزة وسوف يقومون بإخلاء سرير له بعد ساعات , فطلب مني أن أتابع قريبه المريض حتى يجهز بعض أشياء لأطفاله , فذهبت ورأيت أعراض مريض كورونا أمامي .
النفس بسرعة وصعوبة و يتقلب على جنبيه لا يعرف كيف ينام ؟
النفس يعلو ويهبط باستمرار , يصرخ ويقول زود أكسجين رغم أن قياس الأكسجين بجهاز القياس في المستوى المسموح به , كل بضع دقائق يصرخ ويقول سوف أموت الحقوني ,
وأنا لا أدرى ماذا أفعل له ؟ التكييف شغال وهو يتصبب عرقا .
عملت له سوائل ينسونا وزنجبيلا , حتى جاءت الإسعاف وحملته إلى المستشفى , وعرفت بعد ذلك عندما سألت عليه بأنه اصبح ميت كورونا بعد دخوله المستشفى بساعات , فقلت في نفسى : ليتنى لم أره ولم أرى ألمه أمامي , فبكيته وحزنت لسماع خبر موته وأخذت أدعوا له بالرحمة والمغفرة ودعوت لأهله ولأمه , لأني عرفت أن له أكثر من أخ قد توفى قبله بكورونا .
وحدث بعد ذلك ما لم يكن في الحسبان .
كنا في إحدي المرات نوزع بعض المساعدات على إحدي مستشفيات العزل في البلاد , وجاءني تليفون جعلني أتعصب وأحزن , فقال لي صديقي المغسل : ماذا بك ؟ قلت له : إنهم في شغلي لم يتركوني في حالي , فقال : سوف أدعوا على من تنمر عليك ذلك الإنسان المتسلق الذى يعتبر نفسه يفهم كل شيء في مهنته ويفهم آي شيء.
ودعا عليه أن يصاب بكورونا . وحقا فقد أصيب بكورونا , وكأن الدعوة قد أجيبت , ودخل مستشفى العزل , وبل وأرسلت وزاره الصحة خطابا الى جهة عمله بقفل المكان وعزل كل الأفراد في العمل لمدة 15 يوما .
نفس المدة التي كان السبب في أنى أمكثها في منزلي عندما غسلت أول حالة ميت كورونا , واستمر في العزل مدة تجاوزت الشهر وأكثر .
رغم أنه كان يتحفظ تماما في تعاملاته مع الآخرين ولعل ما حدث عبرة له لكى يعرف قيمة ما نقوم به في التغسيل . كنا قد بدأنا فى اواخر شهر رمضان الكريم نغسل في أي وقت وفى القرى والمستشفيات لا يعوقنا أحد , وأصبحت صفة مغسل كورونا شرفا تدخل به أي مكان وفى أي وقت , الكل يقدرك ويحترمك , وزاد الوعى لدى الناس وبدءوا يعرفون قيمه مغسل كورونا ,
لأن انسحاب المغسلين في القرى والنجوع أظهر من استمر في العمل ومن انسحب من الغسل والتغسيل .