مدحت موريس
انكمش فى فراشه متدثراً بالغطاء ما امكنه ليتقى الهواء البارد النافذ اليه عبر الفتحات الضيقة العديدة بنافذة غرفته القديمة. كان الهواء البارد ينخر عظامه فى قسوة حتى شعر وكأنه افترش الرمال على شاطىء البحرفى احدى ليالى شهر طوبة. وضع قدميه واحدة على الاخرى وفركهما لعل الدفء يتولد ويسرى فى جسده لكن البرودة تأبى ان تفارقه بل وتتزايد وكأنها تكيد له وتخرج لسانها فى نشوة كريهة فيرتعش جسده وتصطك اسنانه بعضها ببعض ويهرب النوم من بين جفونه الثقيلة ليبحث عن جسد دافىء يبادله هدأة الكرى. تطول ليلته البشعة حتى صارت امنيته الوحيدة فى الحياة ان يرى اطلالة الفجر ثم بزوغ الشمس فيطردا ظلام الليل وبرودته الى غير رجعة ولكن هيهات فالليلة طالت عن اى ليلة اخرى….لم يعد لديه مايفعله سوى ان يلعن عدوه الذى رماه فى كل المصائب التى يعيشها، صار يلعن الفقر عدوه الاول او الاوحد…فهو الذى لم يمكنه من استئجار غرفة محترمة فى بناية افضل من تلك البناية العتيقة التى يعيش فيها الآن، والفقر هو الذى حرمه من شراء فراش جديد بمفروشات جديدة وغطاء ثقيل بدلاُ من ذلك الفراش المتقادم والمستعمل منذ عشرات السنين والذى يشق سكون الليل ضجيجاً مع اى بادرة حركة تصدر منه، وتلك الملاءات والاغطية المهترئة التى لا تصلح الا ليتم تقطيعها الى قطع صغيرة واستخدامها فى تنظيف الارضيات. بدأ يقلق من الغد فاذا استمر الطقس السىء فكيف له ان ينتظر بموقف الاوتوبيس الغير مسقوف لمدة قد تزيد عن الساعة وهو ذاهب الى جامعته…حسناً عليه التسلح بالبلوفر الجاكار والجاكيت الصوف الثقيل ولن ينسى شمسية المطر بطبيعة الحال.
الآن هرب النوم تماماً من عينيه ولم يعد لديه ثمة امل فى ان يعاوده من جديد، نفض الغطاء من على جسده فى عصبية ، وقف بجوار فراشه قليلاً حتى اعتادت عيناه الظلام ثم سار بخطوات بطيئة على الارض الخشبية القديمة محدثاً جلبة اعتادتها أذناه…تحسس الحائط بجوار باب الحجرة حتى وجد مفتاح النور فاضاء الحجرة البسيطة، اتجه نحو ركن الحجرة حيث البوتاجاز المسطح القديم وبجواره ثلاثة ارفف خشبية اسفلها درج كبير حيث تعمل الارفف والدرج كدولاب للمطبخ، تذكر ان لديه بعض اعواد خشبية من القرفة….ما اجمل شراب القرفة فى ذلك الجو البارد، وضع الكسرونة القديمة المملوءة بالماء على البوتاجاز ووضع اعواد القرفة بداخلها وما هى الا دقائق حتى غمرت رائحة القرفة النفاذة غرفته، سكب القرفة فى حرص فى الكوب الكبير وهو بالمناسبة لا يملك الا كوبان احدهما كبير والآخر صغير…امسك الكوب الساخن بكلتا يديه مستمتعاً بدفء كفيه بينما قرب انفه من البخار المتصاعد من الكوب وهو يشتم رائحة القرفة الذكية فى نشوة واستمتاع.
اتجه الى منضدته القديمة المفروشة بورق الجرائد حيث وضع كتبه الدراسية، والمنضدة بالاضافة الى المقعد الخشبى يشكلان معاً حجرة المكتب وهى ملاصقة لفراشه ويفصل بينها وبين المطبخ المزعوم شباك الحجرة الشاهق الارتفاع مثل كل المبانى القديمة.
وضع الكوب على المنضدة وهم بالجلوس على الكرسى لكنه سكن برهة حيث خًيل اليه انه سمع طرقات على الباب، انتظر قليلاً حتى تأكد ان هناك بالفعل طرقات واهنة او لعلها طرقات خجلى…فمن ذا الذى يطرق على بابه والساعة تجاوزت الواحدة صباحاً بقليل؟ اقترب من الباب وسأل بصوت حاول ان يجعله عالياً …مين؟ …جاءت الاجابة من خلف الباب …افتح يا عصام. حسناً هو ليس من السذاجة ان يفتح الباب لمجرد ان الطارق يعرف اسمه..عاود السؤال …”مين اللى بيخبط؟” انا عادل….عادل ياسين.
تساءل بينه وبين نفسه..عادل ياسين؟ وما الذى اتى به فى تلك الساعة، تقدم نحو الباب ليفتح ويدخل عادل بسرعة…عادل ياسين هو زميله فى الجامعة وبلدياته اى مغترب مثله والاثنان لم يتم قبولهما فى المدينة الجامعية. كان عادل مبتلاً تماماً وكأنه قد خرج لتوه من حمام السباحة او من ترعة بلدهم، قال عادل معتذراً وهو يرتعش من البرد ” انا آسف لم اجد مكاناً آخر الجأ اليه فى هذه الساعة…كان يحمل جوالاً او بؤجة اقرب الى مخلة رجال الجيش من الواضح انها تحوى كل مقتنياته ، وضع البؤجة جانباً واخرج منها منشفة من المعتقد انها كانت زرقاء فى يوم من الايام اما الآن فيحتار المرء فى معرفة لونها ان كان اخضر او اصفر وواقع الامر انها جمعت بين اللونين فى تناثر غير منظم. اخذ عادل يجفف رأسه وملابسه…” انت عارف انى استأجرت عشة من العشش الصفيح على شريط القطر” قال عادل ولم يجعله عصام يكمل كلامه فقد ادرك ان النوة بعواصفها وسيولها قد قضت على العشش المسكينة وشردت ساكنيها الذين من ضمنهم ذلك التعيس عادل ياسين.
وقف عادل وسط الحجرة وعيناه تتجولان فى المكان وهو فى حالة انبهار واضح لم يحاول ان يخفيه ثم -فى بساطة- رفع انفه فى تساؤل عن تلك الرائحة الذكية التى تملأ المكان. ابتسم عصام فى اسى قائلاً ولا يهمك يا عادل ستقضى الليلة معى وغداً نشوف ح نعمل ايه. اخرج عادل بعض الاسمال من بؤجته وفرشها على الارض وتهيأ للنوم متمتماً ببعض الكلمات التى لم يسمعها عصام جيداً لكنه ادرك انها كلمات تلعن الفقر …الفقر الذى لعنه هو نفسه منذ اكثر من ساعة لكنه فقراً من نوع آخر.