مختار محمود
اليوم يوافق الذكرى السابعة والخمسين لإنشاء إذاعة القرآن الكريم، أول إذاعة دينية وُضعت للناس في الأرض. وفي مثل هذه المناسبة يتسابق القوم لتقديم التبريكات وأرفع آيات النفاق وتوزيع التهاني على المذيعين والعاملين والخدمات المعاونة بالشبكة وتعظيم دورهم الإنساني والتربوي والأخلاقي، وكأنهم أتوا بما لم يأتِ به الأوائل، أو كأنهم من العارفين وأولياء الله الصالحين.
في أرض النفاق..كل الأشياء جائزة، وكل المكروهات مباحة، وكل المباحات حلال، وكلمة الحق خروج عن اللياقة وتجاوز مرفوض، والنقد والانتقاد يرتقيان إلى تهمة “الخيانة العظمى”؛ لأنه إن لم تكن معنا، فأنت ضدنا وعدونا! شخصيًا.. لن أقدم سوى خالص العزاء وصادق المواساة، ليس للقائمين على الإذاعة فحسب، ولكن لمستمعيها ومن شبَّوا على تلاواتها وبرامجها ومذيعيها، بعدما أفل نجمها، وانطفأ وهجها، وتحطمت مصابيحها، وتراجعت أسهمها، وتحولت إلى منصة بليدة، يستوي غيابها مع حضورها.
في عامها السابع والخمسين، كان ينبغي على إذاعة القرآن الكريم أن تغدو أكثر نضجًا ووهجًا وإشراقًا وتألقًا، ولكن شيئًا من هذا لم يحدث، بل إن العكس تمامًا هو ما يحدث وسوف يحدث فترة طويلة لا يعلم مداها إلا الله، لا سيما في ظل غياب أية إرادة جادة ومخلصة وصادقة للإصلاح وتصويب المسار.
في عامها السابع والخمسين..كان ينبغي على إذاعة القرآن الكريم في هذه المرحلة الحرجة والحساسة من عُمر الوطن، أن تكون أكثر اشتباكًا مع قضايا مجتمع، يعاني تفككًا وتراجعًا في مؤشرات سلوكياته وأخلاقياته التي لا تخفى على كل ذي عينين، ولكنها آثرت الانعزال والانطواء والانكفاء والمكوث في برج عاجي، ويكفى أنها غابت أو تم تغييبها عن القضية الأهم والأخطر وهي: “تجديد الخطاب الديني”، وترك أمره لبعض الصبيان الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويخوضون في دين الله عن جهل أو سوء نية! في عامها السابع والخمسين..كان ينبغي على إذاعة القرآن الكريم أن تكون في صدارة الموكب الإعلامي، ولكن القائمين عليها منذ سنوات ليست قليلة، ارتضوا لها التراجع إلى المؤخرة، بل تضافرت جهودهم بإخلاص غريب ومريب للوصول إلى ما وصلت إليه الآن.
برامج متشابهة، مضامين قديمة وبليدة، تلاوات مكررة، أصوات وحناجر شائهة، استسهال بغيض في كل شيء، مجاملات رخيصة، استغلال نفوذ..معطيات قادت الإذاعة التي كانت لا تغيب عن بيوت وعقول وأفئدة المصريين إلى إذاعة مهجورة، بسبب مستوها المتدني والمترهل المثير الشفقة والحزن.
فشل إذاعة القرآن الكريم يعكس تدهور منظومة الإعلام الديني في مصر، مرئيًا ومسموعًا ومقروءًا، وهو تدهور يصل إلى حد التخريب المتعمد الذي يقودنا في نهاية الأمر إلى نتائج كارثية وعواقب وخيمة، في مقابل التمكين لتيارات أخرى لا توقر الدين وتعمل حثيثًا على إبعاده عن الحياة! وإجمالاً..فإن شبكة القرآن الكريم تمر الآن بأسوأ مراحلها على الإطلاق، تبدو وكأنها تعيش في شيخوخة متأخرة، أو في أرذل العمر، لكي لا تعلم من بعد علم شيئًا، ولا تنهض من كبوة دخلتها طوعًا أو كرهًا.
في عامها الثامن والخمسين.. نتمنى أن تعود شبكة القرآن الكريم إلى سيرتها الأولى، وأن تتحرر من كل ما يلوث سمعتها، ويعكر صفوها، ويعرقل مسيرتها، بعدما تكون قد تخلصت من كل أسباب الفشل، وغدت اسمًا على مسمى، وأن يقود سفينتها “رئيس” قادر على الإبحار بها إلى شاطيء النجاة، وإعادتها إلى آذان وقلوب المستمعين، وحتى هذا الحين..يبقى الحداد مستمرًا وواجبًا وملزمًا على شبكة القرآن الكريم من القاهرة.