مختار محمود
قد يسأل سائل: وما شأن عالم الجغرافيا الدكتور جمال حمدان الذي غادرنا قبل أكثر من ربع قرن من الزمان في ظروف غامضة بـ”الإسلام السياسي”؟ ولكن عزيزي القاريء تمهل قليلاً، وأرجيء استنكارك حتى تفرغ من قراءة آخر كلمة في المقال، وتعالَ معي نُقلب صفحات مذكرات “حمدان”، التي نشرها شقيقه قبل سنوات قليلة، ونطابقها بالواقع المعاصر، حيث قدم “حمدان” خلالها قراءة عميقة واستشرافًا مدهشًا لمستقبل ما يُسمى “الإسلام السياسي”، الذي فكك دولاً، وأسقط أنظمة، وأثار فوضي، ونشر إرهابًا، وعمم جهلاً، وأنكر علمًا، وخلق تشكيكًا حول الدين الخاتم، وخرَج أجيالاً من الملاحدة ومُنكري علاقة الأرض بالسماء! اعتبر “حمدان” قبل أكثر من ثلاثين عامًا “الإسلام السياسي” تعبيرًا عن مرض نفسىٍّ وعقلىٍّ، مؤكدًا أنه “لو كانَ لدى الإسلامِ السياسىِّ ذرةُ إحساسٍ بالواقعٍ المتدنى المُتحجر لانتحرَ”، كما اعتبرَ الجماعات المتشددة “وباءً دوريًا يصيبُ العالمَ الإسلامىَّ في فتراتِ الضعف السياسىِّ”.
صاحب كتاب “وصف مصر” كان يعتقد بأن المسلمينَ تحولوا إلى عبءٍ ثقيلٍ على الإسلام، وأصبحوا معاولَ هدمٍ للدينِ الخاتم، مثلما كان مؤمنًا بأن العالمُ الإسلامىُّ حقيقة جُغرافية، ولكنه خُرافة سياسية! أثبتت الأيام والشهور والسنون التي تلت وفاة “جمال حمدان” أن تسييس الدين، سواء من جماعات السلاح، أو من مجموعات الدهاة والمكر والعمائم، وضَعه في موضع الاشتباه؛ مما دفع قطاعات واسعة من المراقبين في الشرق والغرب، إلى النظر إلى الإسلام باعتباره دينًا يتساهل مع العنف، و في نظر البعض يُجسِّده، على خلاف الحقيقة، ولو كره الكارهون! على الشاطيء الآخر من النهر، وأمام التحديات الجسيمة التي فرضتها جماعات الدم و العنف والإرهاب والتشدد والتطرف والشطط على المسلمين بشكل خاص، وعلى العالم بشكل عام، فإن المؤسسات الإسلامية التي تحظى بتوقيرٍ وافرٍ لتعليمها الفقهي – فشلت فشلاً ذريعًا في معالجة هذه التحديات حتى الآن، ويفاقم الأزمة أنَّ الفكر السائد في هذه المؤسَّسات تشكَّل من تراث القرون العشرة الماضية، وهي الفترة التي غابت فيها أيَّة ضغوط اجتماعية تدفع نحو التغيير مثل تلك التي واجهتها المؤسسات الدينية الغربية، فكانت المحصلة النهائية أن أكبر المؤسَّسات الإسلامية، وأغناها، وأبرزها تدور في مجالٍ فكريٍ لم يتغيَّر كثيرًا في القرون الثلاثة الأخيرة! لقد دفعت دول إسلامية كبيرة، من بينها: مصر، ثمنًا باهظَا وجسيمًا للوحش الكاسر المتجسد في الإسلام السياسي، يتمثل في نشر ثقافة القتل وانغلاق الفكر وقهر العقل وكسر المنطق ودهس الحقيقة، وكل ذلك قاد في النهاية إلى موجات متلاطمة من الإلحاد والخروج من دين الله أفواجًا والتجرؤ عليه في وضح النهار! فشل الإسلام السياسي خلال عقود ممتدة في إيجاد أرضية مشتركة بين الإسلام والحداثة، ليس على مستوى مبادئ الإيمان، أو الطقوس، أو القيم المرتبطة بالدين، وإنما على مستوى الأدوار السياسية، والاجتماعية، والتشريعية التي نهض بها الإسلام في المجتمع، تلك الأدوار التي يعتقد الكثيرون أنَّها جزءٌ لا يتجزأ من جوهر الدين.
ربما يُمنِّي البعض، ومن بينهم مراقبون ومفكرون أكابر، نفسه بأفول شمس الإسلام السياسي الحارقة القاتلة أفولاً بلا عودة، ويراهن على ذلك مطمئنًا، ولكن هذا ليس صحيحًا في المطلق، لا سيما أن هناك قوى عالمية لا يروق لها ذلك، بعدما وجدت في الإسلام السياسي وعقوله وقياداته وأفراده وعناصره الباحثة عن المال في المقام الأول، سلاحًا رادعًا وقويًا لتحقيق أطماعها وتوسعاتها المشروعة. باختصار..لم يعد الإسلام السياسي مشروعًا لأصحابه، هذا عهد ولى وأدبر، ولكنه أضحى رهانًا مضمونًا للاستعماريين القدامي لإعادة فتوحاتهم واستعادة أمجادهم الزائلة بأقل الخسائر، بل وهم جالسون في مكاتبهم المكيفة ويدخنون السيجار الكوبي، ويتضاحكون على أمة تصف نفسها زورًا وبهتانًا وإثمًا مبينًا، بأنها “خبر أمة أخرجت للناس”!