د.ماجد عزت إسرائيل
احتفل دير الشهيد مارمينا العجايبي بصحراء مريوط بمدينة الإسكندرية يوم الثلاثاء (٣٠ أمشير ١٧٣٧ ش/ ٩ مارس ٢٠٢١ م) بمناسبة مرور خمسين عامًا على نياحة القديس البابا كيرلس السادس البطريرك رقم 116 (1959-1971م) أو ما يعرف باليوبيل الذهبي وبهذه المناسبة العظيمة قام صاحب القداسة البابا تواضروس الثاني بافتتاح بانوراما البابا كيرلس السادس وتطيب جسده الطاهرة وصلاة القداس الإلهي وفي وعظة القداس أَلقَى قداسته كلمة عن فترة حبرية القديس البابا كيرلس السادس
هذا نصها:
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين، تحل علينا نعمته ورحمته من الآن وإلى الأبد آمين.
هذا يوم بهيج من أيام كنيستنا القبطية الأرثوذكسية، والتي نفرح فيها كما نصلي في القداس ونقول “من جيلٍ إلى جيل” نحتفل ونحن في اليوم الثاني للصوم المقدس باليوبيل الذهبي ومرور خمسين عامًا على نياحة البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦، نحتفل في موضعه الذي أحبه وبذل فيه الكثير
في الكاتدرائية في دير الشهيد العظيم مارمينا التي شيدها لتكون شاهدًا على عظمة حياة القداسة، نحتفل جميعًا الآباء المطارنة والآباء الأساقفة وكل الآباء في محبة نيافة الأنبا كيرلس أفا مينا الأسقف ورئيس هذا الدير
ومحبة كل الرهبان في هذا الدير العامر، ولولا الإجراءات الاحترازية التي ترافق انتشار هذه الجائحة كنا وجدنا الآلاف في طرقات الدير احتفالًا بهذه المناسبة، التي بالحقيقة نحتفل بها في قلوبنا قبل أن نحتفل بها في كنيسة أو دير.
البابا كيرلس ظاهرة روحية منيرة في تاريخ كنيستنا، والبابا كيرلس عندما استمعنا إلى سيرته في السنكسار وكيف أنه في سن ٢٥ سنة اتجه للرهبنة ولم تكن أحوال الأديرة في ذلك الزمن مثل ما هي الآن، وترهب في دير البرموس في وادي النطرون ثم لظروف كثيرة وصل إلى منطقة الطاحونة بمصر القديمة وعاش فيها فترات كثيرة، وبدأ يخدم كل المتجهين إليه.
كان محبًا للطلبة والمغتربين الذين يأتون إلى القاهرة لأن المحافظات لم يكن فيها جامعات ولم تنشأ فيها بعد كليات، اختارت العناية الإلهية أن يكون هو البابا رقم ١١٦ بعد فترة عاشتها الكنيسة في متاعب كثيرة سواء على مستوى الكنيسة أو الوطن، واختارته العناية الإلهية ليكون روح سلام في الكنيسة، بدأ حبريته بأن تكون أثيوبيا كنيسة ذاتيه غير مرتبطة بالكنيسة القبطية وصار هناك اتفاق أن تستقل الكنيسة الأثيوبية ومن يومها بدأ البطريرك الأول في أثيوبيا وحاليًا أبونا متياس البطريرك السادس.
وبدأ البابا كيرلس في تعمير هذا المكان الذي أحبه وكنا نقرأ عن آثاره في الكتب، الله وضع في قلبه الاهتمام بهذه المنطقة، وعندما تمت سيامته بطريركًا كان عدد أعضاء المجمع المقدس ١١ أسقفًا فقط وجميعهم داخل مصر ما عدا واحد في السودان وآخر في القدس وكان عدد الكنائس قليلًا، وبدأ البابا كيرلس كظاهرة جديدة في تاريخ الكنيسة وتجديد شباب الكنيسة.
أود أن أضع أمام حضرتكم ثلاثة ملامح رئيسية لهذه الحبرية المقدسة التي استمرت من عام ١٩٥٩ إلى ١٩٧١ ، أي على مدى ١٢ سنة:
١- محبة السماء: هو منذ رهبنته كان محب للعزلة ويحب أن يعتكف ويكون مع الله وحده، صنع هذا قبل وبعد الرهبنة وأيضًا في البطريركية، كان الواضح في هذه الشخصية محبة السماء والسمائين، لذلك كان يقضي أوقات طويلة في الصلوات والقراءة في سير القديسين واختباراتهم وكان يقضي وقتًا طويلًا في الدير، ومحبة السماء تجعل سلوكيات الإنسان مباركة ومقدسة.
كان إنسانًا محبًّا للسماء وفكر السماء يشغل عقله وقلبه.
والمعجزات التي كانت تصنع على يديه كانت بسبب صلته القوية بالسماء، فالإنسان في ضعف لا يستطيع أن يصنع شيئًا ولكن إن وجد تعضيدًا من السماء تصير حياته قوية، عاش البابا كيرلس رغم كل المتاعب التي تعرض لها من الداخل والخارج، والمتاعب التي تأتي من الداخل تكون أكثر مرارة من التي تأتي من الخارج ولكن السماء تسند وتقوي وتشهد على الدوام، تشهد على الأرض وعندما انتقل إليها البابا كيرلس.
لذلك احتفالنا اليوم ليس مجرد ذكرى، نحن نحتفل لنجدد عهودنا مع السماء كمثال هذا البطريرك القديس الذي عاش قريبًا جدًا من السماء وهو على الأرض، اشغل نفسك في فترة الصوم وأسال نفسك هل تحب السماء وتشتاق إليها وتنشغل بها؟ راجع نفسك واذكر كيف كانت السماء شاهدة على عمل هذا القديس البابا كيرلس السادس.
٢- صداقة القديسين: ما أشهى هذه الصداقة التي تربط الأرض بالسماء، ارتبط بالشهيد العظيم مارمينا وحمل اسمه وعاش في مكانه وعمر المكان هنا على اسمه، وصار هناك رباط قوي بين قديس وشهيد من القرن الرابع الميلادي والبابا كيرلس في القرن العشرين وارتبط الاسمان معًا في صحبة قوية، في الأيقونات والمعجزات والعمل، وهو لم يصادق القديس مارمينا فقط ولكنه صادق أمنا العذراء مريم وكان قريبًا منها، وهي فخر جنسنا
وفي زمنه ظهرت أمنا العذراء في عام ١٩٦٨ م وبلادنا في تلك الأزمان كانت في أزمة خطيرة بعد حرب ١٩٦٧ (النكسة) وكانت بلادنا مجروحة جدًا ولكنها ظهرت، ربما بصلواته، لكي تقدم رسالة طمأنينة لكل المصريين وظلت تظهر لمدة سنتين وظهرت في مكان واضح وكبير ورآها الألوف والملايين من داخل وخارج مصر. ظهرت أمنا العذراء لكي ما تمنح سلامًا وهدوءًا لبلادنا وكنيستنا.
وكانت أيام فرح، وصادق أيضًا القديس مارمرقس بحكم منصبه هو خليفة القديس مارمرقس، وفي زمنه كانت فرحة كبيرة أن تأتي الموافقة على رجوع جسد مارمرقس الذي خرج من مصر منذ قرون وعاد إلى مصر بسبب العلاقة القوية بين الكنيسة القبطية والكنيسة الكاثوليكية في روما.
وكانت حادثة هامة في تاريخ كنيستنا ومعها اُفتتحت الكاتدرائية المرقسية بالعباسية بالقاهرة ووضع فيها الجسد في مزار خاص موجود حتى الآن.
هذه الصداقة مع القديسين التي نسميها الشفاعة هي إحدى الملامح الرئيسية في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية. علاقتنا بالقديسين علاقة حية ودائمًا ونسمي أولادنا وكنائسنا على أسماء القديسين.
ومن الأسئلة الشائعة في التقليد القبطي أن أسالك عن شفيعك، وهذا ما يعبر عن علاقتنا القوية ليس في الكنيسة على الأرض بل بالكنيسة في السماء، هذا القديس كان وثيق الصلة بالسماء وكان له علاقة قوية بالقديسين.
٣- الرعاية الكاملة للمؤمنين: اهتم بالرعاية من خلال باب التعمير وباب الامتداد خارج مصر.
باب التعمير: عمل الدير هنا وأصبح مقصد للحياة الروحية، عمل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وعمر الكاتدرائية بالأزبكية، وعمر في أماكن كثيرة لتصير مواقع مقدسه يلتجئ إليها المؤمنون، وهذا نوع من الرعاية.
باب الامتداد للخارج: بدأ الأقباط يهاجرون خارج مصر وكان هذا شيئًا جديدًا على حياة المصريين، نحن كمصريين مرتبطين بالأرض والنيل.
بدأ الأقباط يهاجرون لأسباب كثيرة فأخذ على عاتقه أنه عندما تتكون مجموعة من الأقباط في مكان يرسل لهم كاهنًا لخدمتهم، كانت أول منطقة سنة ١٩٦٢ في الكويت وأرسل آباء أحباء وتأسست أول كنيسة لنا خارج مصر بعد السودان والقدس.
يتكرر المشهد سنة ١٩٦٤ في كندا ويرسل لهم كاهنًا، وكان حدث كبير لأن كهنة الكويت كانوا انتداب ولكن كندا رسم كاهنًا خاصًا لها. وكان أول كاهن قبطي في أميركا الشمالية أبونا مرقس مرقس، الذي تنيح منذ عام.
ثالث كنيسة كانت في أمريكا سنة ١٩٦٨ ، و ١٩٦٩ كانت الكنيسة الرابعة في أستراليا، والكنيسة الخامسة كانت في أنجلترا وهي أول كنيسة في أوروبا. في حبرية هذا القديس تمت زراعة الكنيسة القبطية في خمس مناطق تمثل قارات العالم، وفي حبريته امتدت الكرازة بهذه البذار الخمسة، وهذا يظهر كيف تتفاعل كنيستنا مع الحدث.
هو كان مهتمًا برعاية المؤمنين في أي مكان وهذا أمر هام.
الحديث عن حبرية البابا كيرلس وكل ما صنعه الله على يده يطول جدًا، لكن يكفي أننا نجتمع في هذه المناسبة المفرحة لنا كلنا ونذكره ونتحدث عن ككنز روحي في كنيستنا. وجاء عام ٢٠١٣ م واجتمع المجمع المقدس يون ٢٠ يونية وتم الاعتراف بقداسته قديسًا في كنيستنا بعد نياحته بحوالي ٤٢ سنة، وأصبح ممكن أن يقدم أمام المجمع ملف بعد ٤٠ سنة من الانتقال ليدرسه المجمع حتى الاعتراف بقداسة الإنسان.
اعترفنا بقداسة القديس البابا كيرلس واعترافنا جاء بعد حياته المقدسة والتي شهد عليها الآلاف من الناس وصار قديسًا في كنيستنا وصارت تُبنى كنائس على اسمه وتُرسم الأيقونات ويذكر اسمه في الصلوات ويصير قديسًا قريبًا لنا جميعًا.
باسم المجمع المقدس كله نفرح في هذا الصباح في كنيستنا وهي فرصة طيبة أن يحضر كل هؤلاء الآباء المطارنة والأساقفة هذه المناسبة العطرة التي تعيش في قلوبنا ونفرح بها.
نفرح كثيرًا ونطلب صلوات هذا القديس من أجلنا ومن أجل كنيستنا ومن أجل بلادنا، ونتذكر أيضًا علاقته القوية التي كانت مع الرئيس جمال عبد الناصر وكان لها أثرًا كبيرًا، ومن أهم آثارها بناء الكاتدرائية المرقسية في القاهرة.
نحن نشكر الله الذي أتى بنا لهذه الساعة المقدسة وأنه يوجد في كنيستنا هذا القديس العظيم ونطلب صلواته وشفاعته من أجلنا جميعًا، لكي ما يرافق طريقنا ويكمل مسيرة حياتنا ويعطينا أن نعيش ونتمتع بصداقة القديسين، لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد آمين.